عبد العزيز الصقعبي
اليوم أشعر أنه مختلف عن الأيام السابقة، بالذات منذ أن وضعوني في هذه الغرفة الكبيرة نسبياً، وأحاطوني بعدد من المقاعد، فمنذ وقت مبكر من صباح هذا اليوم تمت إزالة الغبار الذي يغمرني، وقاموا برش عدة سوائل جعلت جسدي لافتاً ببريقه ولمعانه وبالطبع نظافته، وضعوا في الوسط باقات زهور وفي أواني جميله وضعوا قطع من الموالح والحلويات، وأحاطوها بكاسات من الكريستال.
الأمر مختلف، ليس مثل الأيام السابقة، وحقيقة مفاجأة لي، ولاسيما أن الأيام السابقة، بالطبع ليس جميع الأيام، بل في أوقات متفرِّقة شهدت أحداثاً غريبة، كنت مجرد جماد يجتمع حوله مجموعة من الرجال وأحياناً بعض النساء، يحضرون ملفات كثيرة وأوراقاً، يثقلون جسدي بأجهزة الحاسب المحمول وهواتفهم المتنقلة، أحدهم حاول أن يرسم على جسدي خطوطاً ودوائر فلقي توبيخاً من آخر وقام مباشرة بمسحه وتنظيفه، أشعر أن لي أهمية خاصة، أنا كائن بالطبع غير حي، صامت، أسمع جدلا قد يحتد أحيانا، وأحيانا هادئاً.
منذ سنوات قليلة أحضروني لهذه الغرفة، لا أعني أولئك الرجال الذين يجتمعون حولي، ولكن آخرين، عرفوا كيف يجعلون مني كتلة لا شك من يشاهدها يحترمها، لأنها وضعت في المنتصف وأخذت مساحة كبيرة من هذه الغرفة الكبيرة، ووضعت حولها مقاعد لا تقل فخامة عني، منذ أن غادر أولئك العمال بعد أن جعلوني كتلة واحدة، عرفت فيه المهام التي وجدت لأجلها، فثمة أناس يجتمعون حولي، ومن أهم تلك المهام هي تسهيل وتنظيم لقاء مجموعة من الرجال وأحياناً النساء، قد يكون ذلك اللقاء والاجتماع في أي مكان، ولكن لوجودي بينهم، وأقصد بذلك كوني في الوسط حولي مجموعة من المقاعد يجعل اللقاء مختلفاً، فهم يجلسون على الكراسي أو المقاعد ليناقشوا مجموعة من الأمور لا أعرفها ولا علاقة لي بها.
في أول يوم اجتمع عدد كبير في هذه الغرفة، جلبوا معهم مجموعة من الأوراق والأقلام وعدداً كبيراً من قوارير الماء الصغيرة، وعدة أطباق من الحلويات والموالح بكل تأكيد بسيطة ورخيصة، حينها علمت من خلال حديث رجل تصدر المكان بأنه يرحب بالجميع في المقر الجديد، وسيُعقد في هذه الغرفة عدة اجتماعات، لا بأس، غادر الجميع وبقي ثلاثة أو أربعة، جلسوا متقاربين بينهم أوراق، وسمعتهم يتحدثون، أحاديثهم مملوءة بالأرقام، يرتفع صوت أحدهم ويقول لن أوقع، أعرف ذلك من غضبه وطرقه بقبضته على سطحي، ليقول له آخر اهدأ.. هل تريد أن تعيب الأثاث الجديد، لم أفهم ماذا يقصد ربما يعني لو ضرب بقوة أكثر لتحطم جسدي، وهذا أول يوم لي أشعر أن ما حولي يدب به الحياة، حتماً غاضب لأن هنالك شيئاً غير سوى، اثنان أشعر بتوترهما والعرق الذي ينزف من كفيهما، والثالث الذي يتسم بالهدوء بحديثه واثق من نفسه، ربما، فهو لم يصرخ ولم ينزف عرقاً، لم يطل الاجتماع، وقع ثلاثة على الأوراق وامتنع الرابع، وغادروا، مجرد خروجهم من الغرفة، توجه بعض العمال للأطباق المتواضعة من الموالح والحلويات، ليقتسموها، لم يأكل منها أحد خلال الاجتماع سوى رجل بدين ربما مصاب بالسكر أخذ قطعة حلوي حتى لا يصاب بالإغماء، ربما أغرته الحلويات، العمال قاموا بتنظيف المكان.
بعد ذلك الاجتماع، تكررت الاجتماعات، وتنوّعت الشخصيات الذين يتحلقون حولي، عرفت أنها لجان، أحياناً يمتد ذلك الاجتماع أكثر من ثلاث ساعات، حول موضوع ربما لا يستغرق النقاش حوله نصف ساعة، ولكن تدور الأحاديث بينهم حول أمور لا علاقة لها بموضوع الاجتماع، ذات مرة سمعت أحدهم يقول: «في الاجتماع القادم سنقلب عليهم الطاولة»، حقيقة أصابني الرعب، سترتكب جريمة في حقي، لماذا هذه الفعلة الشنعاء، ولماذا أنا بالذات، لا أستطيع أن أصرخ، ولا أقدر أن أجعل العمال يغلقون الباب لكي لا يجتمعوا ويقلبوا الطاولة كما قال أحدهم، ولكن أنا كائن لا قوة له على الرغم من جسدي الضخم المكتسح مساحة كبيرة في الغرفة، وجاء الاجتماع الثاني، انتظرت أن يقوموا بقلب الطاولة على الرغم من ثقلي، وصعوبة زحزحتي، ولكن رأيت أن الأصوات ترتفع، ويعلو اللغط، لا أعرف ماذا يقولون، ولكن بعضهم كان يضرب جسدي بقوة، كأنه يتخيل أنني ذلك الشخص الذي يحاوره، مؤلمة تلك الطرقات، ليس على جسدي فأنا جماد صلب، ولكن على أصابعهم وأيديهم.
عندما انتهى الاجتماع تنفست الصعداء، لا زلت كما أنا، هنالك أوراق توضع على سطحي، وهنالك أوراق تمرر من تحت السطح، علمت فيما بعد أنهم يقولون من تحت الطاولة، وهذه ربما أخطر، فثمة دسائس واختراقات وعلاقات مشبوهة تحدث كما يقولون تحت الطاولة، لن أعي مطلقاً مدى خطورتها.
وهذا اليوم مختلف، رائحة البخور تعبق بالغرفة، والورود والزهور في الوسط على جسدي تشعرني بالنشوة، أشعر أن الأصوات لن ترتفع، بل سيكون هنالك كلام آخر غير ما يتداوله بعض المجتمعين في الأيام السابقة، أشعر بقيمتي التي أهدرت في الأيام السابقة، ليت هذا الاجتماع يدوم.