د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
تعتمد هذه الرواية التي كتبها طالب الرفاعي ونشرتها ذات السلاسل على أحداث حقيقية جرت للنوخذة علي ناصر النجدي يوم الاثنين 19 فبراير 1979.
ثلاثة أصدقاء تعودوا رحلات صيد قصيرة وفي رحلة لم يحكموا أمرهم إذ استهتروا بالبحر، فجعل أسماكه التي اجتلبوا لها الطعم طعمًا لهم فتصيّدهم «كنا نصطاد سمكًا بينما البحر يصطادنا».
نجح طالب الرفاعي في تصوير رحلة النجدي القصيرة كما نجح في تصوير رحلته الطويلة رحلة عشقه البحر منذ أن شبّ عن الطوق، فشق عبابه نحو أفريقيا حينًا ونحو الهند حينًا، ربان ماهر؛ ولكن المهارة تهاوت في ظروف اختلت فيها الحسابات.
وإذا المنية أنشبت أظفارها... ألفيت كل تميمة لا تنفع
استطاع طالب الرفاعي بلغته الموحية أن يخلق تعانقًا جديدًا بين ألفاظ اللغة يدهشك ويمتعك بنسجه المحكم وتعابيره الموحية «مرآة البحر تغري بالسرعة. اليخت فرح ينزلق مندفعًا.. سنتجه جنوبًا جهة المملكة العربية السعودية. خط موج أبيض يجري في أثرنا، ولكنه سرعان ما يتعب فيهدأ ويتركنا في انطلاقنا». «نوخذة السفر يعشق الريح، أنثى تتدللّ عليه فتطرب روحه لغنجها، وتراوغه فينسرب خلفها، تغضب منه فيعرف كيف يراضي جموحها».
وبمثل هذه العبارة تعيش أجواء مغامرة تحبس الأنفاس بتفاصيل دقيقة لا تمل متابعتها ويجعلك الكاتب في أتون الحدث الذي يصخب تارة ويهدأ أخرى كهذا البحر الهادئ المضطرب.
جعل الكاتب المبدع نهاية هذا النوخذة العظيم تلبية لنداء واصله البحر منذ الصغر. حين سمع النداء «تعال» لباه فتسلل إليه، وأغفى على شاطئه حتى جاء والده فحمله للبيت، ثم لباه طوال عمره في الأسفار، حتى إذا طعن في السن لباه فانطوى في جوفه ذات ليلة.
ترتبط هذه الرواية ببيئة بحرية خليجية لها مصطلحاتها ودلالاتها، وهو أمر ربما أجاء الكاتب إلى استعمال بعض تعابير عامية قد لا يدركها من لا خبرة له بلهجة الكويت فـ(الدشة) هي الدخول بعامة؛ ولكنها هنا دخول البحارة إلى البحر في موسم صيد اللؤلؤ والسفر إلى الهند وأفريقيا للتبادل التجاري، على أنه ربما تخفف من ذلك فاستعمل غير المصطلح عليه كما في (أكلة رزّ محلى) وهي أكلة مشهورة اسمها الآن (محمّر)، وبذا علقت أم أوس وسمية بنت عبدالمحسن في الهامش. وأعلم أن ليس هذا اسمها الأصلي بل أصلها ما أخبرني به عبدالمحسن محمد المنصور، والد وسمية، وكان بحّارًا أفنى شطرًا من فتوته وشبابه في البحر، وكانت وظيفته (السَّيب) وهو من يمسك بحبل الغوّاص لينتشله بأقصى سرعة وقوة حين يرتدّ من عمق البحر، قال رحمه الله: يقضي البحارة أشهرًا في البحر يأكلون من التمر المخزن في سفينتهم؛ ولكنه في وقت من الأوقات تكثر فيه الديدان فيتعذر أكله؛ ولذا يعمدون إلى عجنه واستعماله في طبخ الأرز فيحمرّ الأرز من التمر ويحلولي، فكانوا يسمونه (رز متمّر). ومثل هذا «شراب اللوز» رأيت أم أوس دونت في الهامش الاسم المعروف المحلي (بيذان)، وعلقت بلفظ (الحَداق) أمام «الصيد» وعلقت أمام «البوصلة» بالدَّيرة. واستعمل المؤلف لفظ (النرجيلة) ولكن الاسم المحلي هو (القدو). و(المرساة) وهي عندهم (الهِلب)، وأما (لبد) و(لابد) فهي محلية ولكنها تراثية متصلة، جاء في معجم العين «لَبَدَ يلبُدَ لُبُودًا: لزم الأرض بتضاؤل الشَّخص».
سيعرف القارئ الرواية بعض أسماء الأسماك «شعوم، وجنعد، وفسكرة، وبالول»، والكاف من (الكنعد) تنطق بين الكاف والشين كالصوت الإنجليزي ch؛ ولذا يرسمونها بالجيم وإن يكن هذا الرسم غير دقيق، جاء في معجم العين «الكَنْعَدُ: ضربٌ من السَّمك البَحْريّ»، وسيطلع على طريقة صيدها والتلطف في جذبها فلا ينقطع الخيط بها، سيعرف وظائف البحارة: «النوخذة»، و«نوخذة الشراع»، و«السكوني»، و«المجدمي»، و«السيب»، و«النهّام»، و«الغواص» المعروف بالغيص.
وآخر الأمر هذه رواية رائعة مروعة، ولكنها جديرة بالقراءة.