مرَّ علمُ العروضِ -منذ أنْ أسَّسَهُ الخليلُ بنُ أحمدَ رحمه الله تعالى إلى عصرنا الحاضرِ- بمراحلِ تطورٍ متفاوتةٍ لا يمكِنُ للمدقِّق إنكارها. نعم، نحن لا ننكر أنَّ مِن علماء العروضِ مَن التزمَ الجمودَ، لكن هناك أيضًا من حَمَل رايةَ التَّجديد، وممَّن حَمَلها مِن الأقدمين: الجوهريُّ والمعرِّي والقرطاجني وابنُ السَّقَّاط، ومن المعاصرين: أحمد الراضي وجلال الحنفي ونازك الملائكة وعمر خلوف وقد انقَسَم المجدِّدون إلى فريقين، فريقٌ اشتغل بتهذيب أنغامِهِ، والآخر سَعَى إلى إعادةِ ترتيبِ بحوره وأبوابِهِ، وما من شكٍّ أنَّ الأهمَّ هو تهذيبُ الأنغامِ، فمِن الأنغامِ التي تمَّ تهذيبُها نَغَمُ الضَّربِ الثالثِ مِن الطَّويل، إذْ يستشهدُ العروضيون التقليديون عادةً ببيتٍ ليزيد بن الخَذَّاق -وهو شاعر جاهليٌّ قديمٌ- يقول فيه:
أقيموا بني النُّعمانِ عنَّا صُدورَكمْ
وإلَّا تُقيموا صاغرينَ الرُّؤوسا
وفي هذا البيتِ الجاهليِّ خللٌ في الإيقاع، وهو مجيءُ (فعولن) الواقعةِ قَبْل الضَّربِ (سالمةً/ غير مقبوضةٍ) وقد كان هذا الإيقاعُ في السابقِ مقبولًا ثم تدرَّج حتى أصبح ممنوعًا وهذا التدرُّج من القبول إلى المنع ثابتٌ في المراجع الأصيلة ولعلِّي هنا أوردُ الحكايةَ كاملةً فأبو إسحاق الزجاج (311هـ) ذَكَر الاعتمادَ في عروضه الذي وَصَل إلينا ناقصًا، ذَكَرَهُ من دون إيضاح، ولم يتنبَّه محققُ الكتاب د. سليمان أبو ستة إلى أنَّ الاعتماد المراد هو قبضُ الجزءِ الواقعِ قَبْل الضربِ المحذوفِ، ثم جاء أبو الحسن العروضي (342هـ) ليقول لنا إنَّ الأكثر في الضرب الثالث هو أنْ يكون على (فعولُ فعولن) ثم أتى الصاحب ابن عباد (385هـ) فأَثْبَت جوازه، وأمَّا ابن جني (392هـ) فلم يشر إلى ذلك إطلاقًا، ثم جاء بعدهم الجوهري (393هـ) ليقول لنا بجراءةٍ إنه يختارُ (القبضَ/الاعتماد)، وهذا التصريح من الجوهري يُحسب له، ثم جاء أبو العلاء المعرّي (449ه) ليكون أكثر صراحةً من الجوهري فقد قال: إنَّ الشعراء من طبقة جرير ومَن بعده يلتزمون الاعتماد. هذا القول من المعرِّي يبيِّن لك أنَّ الحس الإيقاعي قد تطوَّر فما كان مستعملًا مِن قبل قد أصبح مع مرور الزمن في طيِّ النسيان، ولم تقف قصَّة هذا الضرب إلى هذا الحد فهناك ابن السقَّاط عاش في القرن السادس الهجري وهو عروضيٌّ مغربي ماهرٌ مغمور، استبعدَ في كتابه المسمى (مقدمة في العروض) الضربَ المحذوفَ من الطويل، وأبدله بضرب أحْكَمَ منه، سمَّاه الضربَ الثالث (المحذوف المعتمد) ثم حُسِم الأمر عندما أعلن الدكتور عمر خلوف في كتابه (كن شاعرًا) نهاية الحكاية إذْ أبان أنَّ الضرب (فعولن) في الطويل يسبقه دائمًا (فعولُ) محذوفة النون وجوبًا.
وبعد فإنَّ ما يجب أنْ يتقرر –بعد كلِّ هذه الحكاية- أمران: أوَّلًا: عدمُ إقرارِ الضَّرب المحذوفِ (فعولن) ضربًا ثالثًا للطويل والاستعاضةُ عنه بالمحذوف المعتمد (فعولُ فعولن). وثانيًا: أنْ يُوضع زحافُ الاعتمادِ الخاصِّ بضربِ الطويلِ المحذوفِ ضِمن الزحافات التي تجري مجرى العلة.
** **
- منصور بن عبد الله المشوح