د. عبدالحق عزوزي
هناك دعوات كثيرة في الولايات المتحدة الأمريكية ولدتها احتجاجات تاريخية أشعلت فتيلها وفاة الأمريكي جورج فلويد، المواطن الأعزل الذي قضى اختناقاً تحت ركبة شرطي أبيض أثناء توقيفه في مينيابوليس؛ مما أعاد إحياء الجدل الحسّاس حول إرث العبودية في البلاد الذي تجسّده نصب تذكارية تمجّد الجيش الكونفيدرالي ويطالب كُثر بإزالتها. كما أن هاته الاحتجاجات المناهضة للعنصرية والاستعمار اتخذت زخماً في أوروبا باستهداف التماثيل والنُصب التذكارية للشخصيات التي كان لها دور في تكريس العبودية والاستعمار.
ففي فرنسا، تسعى بعض الجمعيات والتكتلات إلى تفكيك التماثيل وتطالب السلطات بإزالة رموز الشخصيات التي أسهمت في تجارة الرقيق والقمع خلال فترة الاستعمار... ومن بين التماثيل المستهدفة في فرنسا، تمثال جون باتيست كولبير الموجود وسط ساحة مجلس النواب؛ وهذا الرجل كان أحد الوزراء الرئيسيين أثناء حكم لويس الرابع عشر، وهو صاحب «القانون الأسود « الذي شرع العبودية في المستعمرات الفرنسية الإفريقية .
ويرى البعض أن مكانه هو في المتحف بعيداً عن ساحة البرلمان الذي يمثل الجميع؛ وفي مدينة ليل شمالاً، نجد تمثال الجنرال لويس فيدهرب المثير للجدل، فهذا الرجل يعد شخصية بطولية بمقاومته الغزو البروسي لفرنسا، لكنه معروف بتكريسه العبودية والاستعمار والقتل خلال حملته على دولة السنغال الإفريقية.
أما في بريطانيا، فقد شهدت مدينة بريستول، إسقاط تمثال لتاجر رقيق وهو إدوارد كولستون من القرن السابع عشر، وذلك وسط موجة الاحتجاجات التي شهدتها المملكة ضد العنصرية على خلفية مقتل المواطن الأمريكي جورج فلويد..
وفي خضم هذا الجدل اللا متناهي حول العنصرية المتجذرة في العالم وبخاصة في أمريكا، نشر بنك سيتي غروب تقريراً، منذ أيام، يوضح فيه كيف أضحت سياسات التمييز العنصري عائقاً أمام ازدهار الاقتصاد الأمريكي وأضاعت عليه تريليونات الدولارات في العقدين الأخيرين. وقد بينت دراسات سابقة نشرتها شركة الاستشارات الاقتصادية ماكينزي أن «الأمريكي من أصل أفريقي يكسب مليون دولار أقل من المواطن الأبيض على مدار حياته». ولاحظ اقتصاديو سيتي غروب، بعد دراسة البيانات التي جمعوها من الاحتياطي الفيدرالي ومكتب التعداد السكاني، أن الفروق في الأجور «لم تضق منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي». كما يستفاد من التقرير أن فشل السياسات في مكافحة التمييز في أماكن العمل، منذ 20 عاماً، قد أسفر عن تضييع «مبلغ ضخم للغاية تصل قيمته إلى 2700 مليار دولار كان يمكن إضافته لإجمالي الدخل القومي إذا لم تكن هناك فروق في الرواتب». ولا جرم أنها أموال كثيرة كان من الممكن، جزئياً، أن تنمي الاستهلاك أو تستخدم للاستثمار في الأعمال التجارية أو العقارات. ويأسف خبراء الاقتصاد في هذه المجموعة البنكية على «أن الولايات المتحدة تُحرم من تحقيق 0.2 بالمئة زيادة على نسبة النمو الحالية جراء سياسات التمييز الحاصل في توزيع المداخيل».
إن أحد المكونات الرئيسية لثروات الأمريكيين يأتي من القيمة العائدة لمنازلهم. وفي هذا الصدد، فإن التمييز صارخ للغاية، وتشير الدراسة إلى أن «الفجوة بين نسبة الأمريكيين السود الذين لديهم ممتلكات ونسبة البيض قد ازدادت منذ الستينيات». فما يزيد من «اتساع اللا مساواة العرقية» هو أن هذه الأقليات عندما تتمكن، على الرغم من كل شيء، من تملك عقار، فإنه غالباً ما يكون في الأحياء الرخيصة، ما يعني أن قيمة ممتلكاتهم ترتفع ببطء شديد...
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، إذا كانت البنوك تتردد في منح القروض العقارية، فهي أشد حذراً في تمويل المشاريع التجارية وإنشاء الشركات للأقليات العرقية. ويقدر البنك الأمريكي بأنه إذا كانت المؤسسات المالية قد «تعاملت بطريقة عادلة ومنصفة» مع رواد الأعمال الأمريكيين من أصل أفريقي الذين جاؤوا لطلب المال لإنشاء أعمالهم التجارية، «كان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى توليد مبلغ 13 تريليون دولار من الإيرادات الإضافية للاقتصاد الأمريكي وخلق نحو 6 ملايين فرصة عمل منذ 20 عاما مضت».
عندما اطلعت على هذا التقرير الميداني والعلمي الخاضع لأبجديات الأرقام والتحاليل الاقتصادية والمجتمعية، تكونت لدي قناعة أن العنصرية شيء متجذر في المجتمع الأمريكي وأنه لا يمكن إنهاء هاته التفاوتات العرقية بين عشية وضحاها وأن الأمريكيين، سيعانون لمدة طويلة من ويلاتها، وهو ما ينذر بفترات احتجاجية عصيبة في المستقبل.