رمضان جريدي العنزي
عندما يغضب البعض من الآخر يصفه مباشرة بالحمار تعبيرًا عن البلاهة والغباء والجهالة. هذا التعبير نجده في الحياة اليومية لدى جميع الشعوب، وليس مقتصرًا على شعب واحد. يلفظ هذا القول بصوت عالٍ أحيانًا، ومستترًا في أحيان أخرى. وقد يؤدي استخدام هذا اللفظ إلى مشاكل ونزاعات ومقاضاة.
الحمار واحد من الحيوانات الأليفة والمستأنسة، والخادمة للإنسان، والمطيعة له. واجه الظلم والاضطهاد والاستعباد، وأخذ يطلق اسمه على كل مهمش كسول غبي بليد، وهو الذي يملك القوة والصبر والجلد، ويتحمل ضربات العصا، ولسعات السياط، وينعت بعدم الفهم، وسوء التدبير والإدراك. وحُدد اسمه للشتم والقدح والذم والنيل من آدمية الإنسان. إن الحمار من مخلوقات الله، سخّره الله تعالى للخدمة والركوب. له شعور وإحساس، ودور، ومهمة لا نعلم كيفيتها ولا ماهيتها، الله وحده يعلم ذلك ويدركه، لكنه يملك الوفاء والمودة لصاحبه، ويصون العشرة، ويحفظها، ولديه القدرة على استقراء مشاعر وانفعالات صاحبه الإنسان، فكيف يستمر الإنسان في ذم هذا الحيوان الأليف المطيع، فينعت الشخص السيئ البليد به؟! إن الظلم والإجحاف لهذا الحيوان سلوك قبيح، وتعدٍّ صريح عليه. إنني أكتب مقالي وأعلم علم اليقين أنه لن يقرأه أحد من الحمير، إلا أنني أكتبه إنصافًا له؛ لأنه حيوان غير انتهازي، ولا يستغل الفرص، ولا يعرف الأقنعة، (دغري)، لا يعرف الازدواجية والتناقض، ولا يترك المكان الذي ألفه وعاش به، لا يخون صاحبه، ويعمل بجد، ويواجه الصعوبات والمعاقات بهمة ونشاط وذمة. لا ننكر أن هناك من أنصف الحمير، فمن ناحية الحقوق الجسدية قامت مدينة بلاكبول الساحلية شمال غربي إنجلترا بتطبيق قواعد صارمة للحفاظ على الحمير، إحداها ألا تتجاوز أيام عمل الحمار ستة أيام في الأسبوع ما بين العاشرة صباحًا حتى السابعة مساء، تتخللها ساعة راحة يوميًّا لتناول وجبة الغداء، مع إجراء اختبارات صحية إلزامية قبل بدء موسم الصيف. أما عن الحقوق الفكرية للحمار فقد لاقت الحمير بعض الإنصاف حين سمت إحدى الجمعيات في المغرب نفسها باسمهم دلالة على نباهته أكثر من البشر، وهي جمعية أصدقاء الحمير المغربية، وكذلك جمعية الحمير المصرية ذات البُعد الحقوقي والإنساني. كما أن الحمار شعار للحزب الديمقراطي الأمريكي كناية عن الصبر. وفي التقويم الجمهوري النفسي يعتبر يوم 6 أكتوبر في كل عام يوم الحمار. ومن الغريب والعجيب أن نجد الحمار يشغل حيزًا مهمًّا في كتب القصص والطرائف والأسمار، بداية من كتاب ألف ليلة، والأغاني للأصفهاني، وأشهرها كليلة ودمنة في قصة الأسد والحمار والثعلب، ثم تأتي كتابات الجاحظ عن طرائف الحمار وخصاله وطباعه وأصله، وذلك في 65 مرة من صفحات كتاب الحيوان.
أما التراث الشعبي فلم ينصف الحمار في أمثاله أو حكاياته؛ فكلها تصفه بالبلادة والغباء، واستباحت إهانته وشتمه في العمل أو في النداء.
وعلى النقيض نجد توفيق الحكيم قد خص الحمار بمؤلفات خمسة أدبية، عن لطفه وحسنه، وبالغ في رسم صورته، فجاءت في هيئة عظيمة، وسيرة عطرة وبهية، وعقلية راجحة للأفكار الذكية، وآراء ناقدة للأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية، وذكر أنه رفيق صباه، وصديق شبابه، فلم يكذب عليه مرة، ولم يتمرد على رفقته ونداه، ومحاوره الناصح، الذي لا يجامل، ولا في الحق يمازح.
وفي المكتبات العالمية نجد عن الحمار عشرات المصنفات العلمية، والكتابات الروائية، في الشعر والبلاغة والصور النقدية.
والقصة تطول عن الحمار.. وأكاديمية موليير للحمير، وجمعياته الأهلية، وأحزابه السياسية، ومنتدياته اللطيفة العربية والدولية التي اتخذت منه شعارًا للعدالة والحرية، وأصبح اسم الحمار مرادفًا للحرية الحزبية، والديمقراطية، والعولمة الأمريكية، بينما في أوطاننا العربية يقولون عن الفرد الفاشل والغبي «إنه حمار»!
إن الحمار الخدوم الصابر الأليف، كبير الرأس، قصير الذيل، طويل الأذنين، شارد العينين، لا يوجد تشابه خِلقي بينه وبين أي فرد من أبناء البشر، إلا أن البشر ظلموه وهو الخدوم المطيع الودود الوفي لهم. لا شك أن للحمار محنة ومظلومية، صنعها له البشر، وهو الذي اشتُهر بالكد والجد والعمل الدؤوب. ظهره عرف الأحمال الثقيلة، ولم يأنف قط عن حمل الأشياء أيًّا كان وزنها ورائحتها. لا يتذمر، ولا يحتج لطول ساعات العمل وقلة الراحة ونوعية العلف، كثرته وقِلته. إن الحمار أفضل بكثير من الكسالى والمترفين والنائمين في فرش من حرير كصاحبات الخدور، ذوي الأحلام الكبار، والأمنيات العظام، والخيبات الثقيلة، الذين لا يودون أن يعرقوا من أجل لقمتهم، والذين يريدون المال من غير تعب، والثروة من غير إنتاج. نعم، الحمار يبقى حمارًا حتى لو عاش بين الخيول، لكنه يبقى رمزًا للجد والكد والصبر والعمل الدؤوب، عكس النائمين الكسالى الحالمين بالأشياء الثمينة من غير أن يعملوا، والمضخمة ذواتهم بالأمنيات الكبار من غير أن يعرقوا.