فهد عبدالله العجلان
قدر المناطق المشبّعة بالثروات الطبيعية والعمق الثقافي التاريخي أن تكون بؤر صراعات لا تنتهي وفوهات براكين حتى لو خمدت فترة فإنها تعود للثوران مجدداً، ومهما تفاءل السياسي أو حاول الاستسلام لنظرة متماهية من أطروحات التنمية التقليدية فإن قوى الفعل السياسي الأقوى على المستوى العالمي تسعى دائماً للتأثير والاحتفاظ بملفات تربك مساره توظِّفها في لحظات حاسمة تصنعها أو تستثمرها، ولذا فهي تسخن وتبرد ملف الأقليات في الدول النامية وفق أجندات زمنية مرحلية قد لا تدرك الأطراف المعنية مباشرة كنه أهدافها، ولذا فإن نموذج التنمية في هذه المناطق ينبغي أن يكون مختلفاً عن غيره، وأن يؤسس لتنوّع الموارد وتجددها لتحقيق التنمية المستدامة وتوحيد الجهود والوضوح تجاه أولويات التنمية عموماً وهذه الملفات على وجه الخصوص وصياغة الرؤى الاستباقية لمواجهة تحدياتها.
عقدة النفوذ المتأصلة في كثير من الحضارات الآفلة التي تسعى للوصاية والتغلغل في هذه الأقليات وفهم جذورها وثقافتها التنظيمية لتحقيق أهدافها على أرض الواقع باتت أولوية تتطلب فهم طبيعة التفاعل والتأثير بينهما، والسعي لتفكيك شبكة الارتباطات، التي رغم ضعفها الظاهري إلا أنها تستمد القوة والحضور والتأثير في المشهد حين تحين لحظة الاختبار، والدول التي تقع تحت دائرة المطامع والنفوذ تاريخياً تواجه قدر هذه الملفات الساخنة المؤجلة التي تخبو نارها تارة ثم تتأجج تارة أخرى استناداً إلى انعكاسات دائرة صراع النفوذ والوجود التي لا تنتهي!
كان لا بد من هذه المقدِّمة المختزلة جداً للولوج إلى هذا الموضوع الشائك في منطقة الخليج، وهو ملف الأقلية الشيعية ودورها التنموي الوطني في هذه المرحلة الشائكة من صراع المنطقة لحماية شراكتها المستمدة من الوجود السياسي والمجتمعي في دولها، ولأن ملف الوجود وحماية المكتسبات أعمق من تحدي الأقليات سأكون واضحاً وصريحاً بعد هذه المقدِّمة!
مما سيحسبه التاريخ للمملكة العربية السعودية، وهي الحضن الأكبر والدرع الحامي لأمن المنطقة، أنها واجهت تنوَّع التحديات التنموية بمراجعات قاسية لا يمكن أن يباشرها إلا إرادة سياسية صلبة تعي حجم مكتسباتها وأولوية حمايتها بعيداً عن محاباة أي طرف أو مداهنته، وقد أدركت القيادة السياسية، بل أعلنتها صراحةً أن ثمة فكراً وتوجهاً سابقاً أسس لخطاب صدامي مع الداخل والخارج كان يستند إلى إرث ضيِّق الأفق في المذهب السني -حاد عن الأسس التي قامت عليها هذه البلاد- نما وترعرع بدعم ورعاية من حواضن ذات أبعاد أممية اختارت أن تزج بمقدرات هذه البلاد وتاريخها في صراع وجودي مع العالم، وكان لجماعة الإخوان المسلمين والجماعات المتفرِّعة منها الدور الأكبر في تلك المرحلة التي دفعت المملكة ثمنها غالياً في مسار تنميتها الثقافية والبشرية، لكن الدول التي تملك زمام إرادتها لا تتردد في تصحيح المسار حين تحين اللحظة التاريخية، وقد حدثت!
أعاد صانع السياسة السعودية تموضع علاقة الدولة بالمجتمع والعالم، ودفع بحضور وعي اجتماعي جديد أسس بذرته منذ عقود في أرض خصبة في الداخل ومن شباب مدرك لأولوياته التنموية ودور بلاده في المنطقة وشراكاته العالمية، لينتج حضوراً ثقافياً أصيلاً يستند إلى وسطية هذا المجتمع الذي شرَّفه الله بخدمة أطهر بقاع الأرض وهي الحرمان الشريفان، فأخذ المجتمع والقيادة معاً زمام إقصاء التشدّد والتنطّع لخلق حياة وسطية جديدة وخلاَّقة تليق بهذه الأرض وقيادتها وأهلها بشعلة أوقد نورها قائد الإصلاح سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان برؤية 2030 وبدعم ومباركة الملك الصالح سلمان بن عبدالعزيز.
كل الأصوات التي كانت تنادي بالتراجع التنموي والثقافي من المحيط السني السائد لم تعد تجرؤ اليوم على الصدع بذلك؛ لأن المجتمع قد حزم أمره ولم يعد يستمع للأصوات التي كانت تزعم أنها صوت الأكثرية والغالبية يوماً ما، فأصبحت اليوم تناقش قضايا المجتمع بلغة ومقاربة وسطية مختلفة تتفهَّم من خلالها التحديات والأولويات بما لا يعطِّل مسيرة التنمية، فقضايا مثل قيادة المرأة للسيارة وتمكين المرأة في مجالات العمل والحضور الثقافي المتنوِّع للرجل والمرأة في ميادين كثيرة أصبحت شاهداً أن إرادة التغيير التي أطلقتها رؤية 2030 لم تكن لتنطلق لولا تجذّرها في الوعي المجتمعي السعودي المدعوم من كل الفئات دون استثناء.
المنجز الحضاري والثقافي المجتمعي في المحيط السعودي، الذي أرى تأثيره وصداه اليوم يمتد إلى كل شبر في المنطقة، أصبح بؤرة إشعاع تواجه كل مؤامرات الظلام التي أرادت يوماً ما أن تفصل هذه الأرض عن محيطها الإسلامي المتنوِّع والعالمي الأكثر تنوَّعاً، وقد تجلَّت تلك المؤامرات في صياغة أجندات استخباراتية عالية التعقيد باستقطاب أقلية من شباب هذه الأرض لتزج بهويتهم وتاريخهم يوم 11 سبتمبر 2001 م في صراع وجودي مع الحضارات أجمع، لكن إدراك القيادة السياسية للأبعاد الإستراتيجية لهذه المؤامرة أفشلها بوعي مجتمعي لا يقل شأناً عنه وبتجربة لن يتجاوزها التاريخ وسيرويها يوماً ما بتفاصيل أكثر مما عرفناها!
اليوم، ونحن نمر في مرحلة مفصلية وجودية في تاريخ المنطقة، لم يعد من الحكمة تجاهل الملفات الحرجة التي لا تستقيم صلابة البناء دون طرحها بشفافية ومباشرة ووضوح، فالتاريخ لن يرحم الساكتين عن قول الحق ولو كان على حد السيوف، فالإخوة من الأقليات الشيعية في منطقة الخليج وخصوصاً مرجعياتها الدينية والفكرية والمثقفين والمثقفات وكل من يملك رأياً أو صوتاً مسموعاً في محيطها أمام تحد تاريخي في حماية أوطانهم ومكتسبات دولهم التي تواجه معركة وجود حقيقية من دولة مارقة ووكلاء يرفعون راية مذهبهم النزيه عن كل ما التصق به من جرائم وأطماع وتدمير واجهته المنطقة ولا تزال، فلا بد من وعي ثقافي داخل قيادات هذه الأقليات وجهر بالقول يترجم حقيقة أن وهم وأحلام تحقيق الهيمنة الموعودة من خارج الحدود هي مغامرة باستقرار وأمن هذه الأقليات نفسها، وأن بعض أفراد تلك الأقليات ممن ارتهنوا لوكالة مشاريع تدميرية لن تجلب سوى إذكاء عداء تاريخي يتجدَّد في محيط أكبر من وجودهم وحضورهم وأشد رسوخاً منه، فكما ظهرت وسادت أصوات مارست المراجعة بشكل علني شجاع في المحيط السني من قبل علماء دين ومثقفين وكتَّاب من كل الأطياف لا يزال المحيط الشيعي في منطقة الخليج مستسلماً لمواقف تقليدية تؤثِّر الصمت أو الحديث المعمم بعيداً عن مواجهة الخطاب والسلوك المتطرف وجذور تحدياته التنموية التي تمس الأمن الوطني المجتمعي بوضوح وصراحة.
يدرك المواطن الشيعي البسيط أن نموذج التنمية في دول الخليج اليوم هو حلم كل مواطن في الدول التي اختطفت الخطاب الشيعي، والتي خلقت نماذج متهالكة لتنمية حرمت الإنسان في بلدانها من كل منافذ الحلم والتطور واستثمار طاقاته وموارده، والصورة اليوم جليَّة في إيران ولبنان واليمن وغيرها من الدول، فهل تدرك تلك القيادات في الأقلية الشيعية في منطقة الخليج أن اللحظة التاريخية الحاسمة اليوم تتطلب منها المراجعة بشفافية وتحديد البوصلة تجاه ما يهدِّد وجود دولها التي تكابد في معركة تنموية وجودية، ولعلهم ينظرون بجدية فيما قاله السيد كمال الحيدري في حوار تلفزيوني، وهو مرجع شيعي عراقي مقيم في مدينة قم الإيرانية: إن المجتمع الشيعي يمارس منهجية تقديس الأخطاء، فهل حان الوقت لتصحيح الأخطاء ومواجهتها بشفافية؟!
وأنا أكتب هذا المقال تذكَّرت بمرارة ما رصدته عيناي أثناء زيارتي وعدد من زملائي من خريجي برنامج أكسفورد للقيادة والإدارة المتقدِّمة لتقديم واجب العزاء في شهداء القديح الذين قضوا في تفجير إرهابي آثم وكتبت بعضاً من ملامح تلك المرارة حينها في مقال بصحيفة الجزيرة بعنوان «رسالة إلى أهلي في القديح» في 11 يونيو عام 2015 ، عاتبت فيه المنظمين لعزاء الشهداء في مسجد العنود في الدمام بمبالغتهم في رفع الأعلام واللافتات التي تعزِّز الانتماء الطائفي والتي لم يكن أي منها يرمز إلى الوطن أو تعزيز اللحمة الوطنية، رغم أن أغلب المعزين كانوا من إخوتهم السنَّة وشركاء المواطنة معهم في حضن الوطن، بل أكثر من ذلك أن الحكومة السعودية حينها قد أطلقت على شهداء القديح مسمى شهداء الواجب، وبأمر من خادم الحرمين الشريفين آنذاك الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله - ولم أر أي إشارة أو لافتة أو احتفاء بذلك في زحام اللافتات والمسميات التي لا تغيب عنها الروح الطائفية وللأسف، رغم أن هذه الجرائم والتفجيرات من قبل الإرهابيين قد استهدفت إخوتهم السنَّة قبلهم، بل تجرأت وامتدت لتفجير مسجد مقر قوات الطوارئ في منطقة عسير بذات البشاعة والإجرام، كتبت في ذات المقال: كنت أتمنى لو أن رموز الوطن الجامعة لنا جميعاً حاضرة في مقر العزاء، كما كانت حاضرة في قلوب وألسن المعزين. كما أن عتبي امتد في تلك الزيارة إلى المشرف على أحد أكبر الملتقيات الثقافية في القطيف، والذي استضافنا مكرّماً في بيته بحضور عدد من مثقفي المنطقة الأكارم، وقد سألته بحضور الجميع حينها أني كمواطن أتشارك مع أبناء المنطقة هموم هذا الوطن أتساءل عن دور مرجعيات الشيعة ومثقفيها في الصدع تجاه الأصوات المتطرفة في المحيط الشيعي والتي تستهدف الوطن واستقرار المنطقة وتتماهى مع أجندة أعدائه وضرورة مواجهتها في العلن، كما فعل علماء السنة ومثقفيهم مع المتطرفين في الجانب السني، ولم تقنعني إجابته حينها!
وفي مقال آخر كتبته في 13 أغسطس عام 2015 في صحيفة الجزيرة أيضاً بعنوان «دروس الألم من عسير إلى القطيف» قلت فيه: ولأن المكاشفة والوضوح على رأس أولوياتنا الوطنية خلال هذه المرحلة، فلا بد أن نتعلَّم من بَعضِنَا الدروس والمواقف ونصحِّح مسار من تجرفه تيارات العاطفة وآلام المصائب، كنت حينها أبث عتبي إلى صديق وأخ لي من أهالي منطقة القطيف الحبيبة أحسن وفادتنا زملائي وأنا من مجموعة أكسفورد السعودية حين زرنا أهالي الشهداء في القديح والقطيف - وكنا نعزيهم كمواطنين وإخوة استهدفوا كما استهدفنا - ناقلاً له العتب على المنظمين للعزاء مبالغتهم في مظاهر العزاء واقتصارهم على شعارات ورموز تعزِّز الانتماء المذهبي، وتغفل عن الجوامع الوطنية التي استهدفها أعداء الوطن، قلت لصاحبي القطيفي النبيل: ليتك تنقل إلى المنظمين في عزاء القديح والدمام أملي في أن يستفيدوا من موقف أهالي شهدائنا في عسير، فلقد ضرب أهالي شهداء الوطن في عسير الحبيبة أروع الأمثلة في مظاهر عزاء تجاوزت منطقتهم ومذهبهم وقبائلهم لتقدِّم رسالة للإرهابيين أن جراح الوطن ليست وجعاً وألماً، بل جزء من ثمن كبير لوطن أعطى ولا يزال يعطي الكثير، فكل المحبة لأهلي في القديح والقطيف وعسير وكل شبر على أرض الوطن، ولنتعلَّم الدروس من بَعضِنَا قبل فوات الأوان!
أخيراً لا بد من القول إن الإخوة الشيعة من مواطني المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي، هم مكون حضاري وثقافي أصيل وأعرف منهم -والجميع يعرف- عدداً كبيراً هو الأغلبية ممن يحملون الولاء والوفاء لأرضهم وقيادتهم وشعبهم، بما يضرب أروع الأمثلة والشواهد، لكن محبتنا وخوفنا على أمن أوطاننا ومنطقتنا وحماية مكتسباتنا التي نتشاركها جميعاً، سُنةً وشيعةً، تستلزم الوضوح والصدع بصوت عال: إننا نتطلع إلى موقف تاريخي من الفاعلين وأصحاب الأصوات المسموعة من المحيط الشيعي، أن يقوموا بواجبهم في هذا الظرف التاريخي الحاسم لحماية الأجيال الحالية والمستقبلية من الانجراف مع مشاريع تدمير وتفتيت المنطقة!.. ألا هل بلَّغت؟ اللَّهم فاشهد!