د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** أشار إبراهيم الكوني 1948- في روايته (جنوب غرب طروادة - جنوب شرق قرطاجة) إلى قومٍ يبيعون بضائعَهم «عن بُعد»، أي من غير أن يقتربوا من المشترين، حيث المعاملة مقايضة فيضعون ما يودون تبادله مع غيرهم في مشارفَ يتوارون خلفها، ويضع المبادل ما يراه ثمنًا عادلًا بجانب البضاعة ثم يذهب بعيدًا فإن أعجبهم العِوضُ أخذوه وإلا أعادوا العملية ثانيةً وثالثةً، ولا يرضون بمقابلة الطرف الآخر خشية الوباء، وعنَوا وباءً غيرَ جسدي هو وباء «التملّك» لأن حبَّه - في اقتناعهم - سببٌ للوقوع في الأسر.
** التفصيل في الرواية، والتأصيلُ يوحي بامتزاج الخيال المحلِّق بالعقل المنطلق، وإن حكم الظن بعسر اجتماعِهما، فقد جُبل البشر على حب «التكاثر»، ولكلٍ أن يختالَ بسلوكه أو سلوك ناسه دون أن يجبرَ غيرَه على قراءة الحدث وفق اشتراطاته، وقديمًا قالوا: إن الاستثناء يؤكد القاعدة ولا ينقضها، وفي الروايات يتلبس الشخص ويلتبسُ النص، والعيشُ في دوائر الفراغ مزيدُ تيه، والحقيقة الوحيدة هنا تسيُّد «البُعد» الذي أيقنّا -قبل «كوفيد 19»- أنه القرب»؛ فكأن المفردتين المتضادتين صارتا مترادفتين مثلما شاءهما الشاهد البلاغي القديم: (سأطلب بُعد الدار عنكم لتقربوا)، والمسافة كبيرة بين من يستقرئُ الآتيَ المتحرك ومن يَقرُّ في الحاضر الساكن.
** البعد حلٌ لا مشكلة، وثراءٌ لا خواء، وفيه رواءٌ معرفيّ وذكاءٌ اجتماعي، كما فيه براءةٌ من مأسسة السلطة العقلية أو تبرير التسلط الثقافي؛ فلا عقل ولا خيال يرضيان أن يقتعدا مكانًا يشبه الفصل المدرسيّ البليد حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعلم ولا سوط يقارع عصاه في موقعٍ مليء بالمشاغبين والعاجزين، وضمن إيقاع تشاتمٍ وتلاطمٍ وتنمرٍ وتذمر.
** ثنائية (البُعد - القرب) أُحاديةُ البضاعة والمتبضع، ونواتجها مُزجاة لن تنتظر رهط «الكوني» كي يقرروا وضع مسافة بينهم وبين مصالحهم العجلى، والأمر عينُه مع ذوي المواقف المتلونة والمعلومات المضلِّلة كي لا يُعيدوا السنة في الفصل نفسه ومع المعلم ذاته.
** ذواكرنا الصغيرة تستعيدُ التعليمات الصارمة بالبعد عن أولادٍ في الحارة وآخرين في المدرسة ومماثليهم هنا وهناك كي لا نصير مثل هذا وذاك، لكننا جهلنا أين أولئك ومَن هم! ثم التقينا بمستنسخاتٍ تشبههم أو كذا نتخيلهم، ووعينا أن خطوط التباعد وهمية، وأن البشر يتكررون، والثنائياتُ لا تتنافر بل تتجاور؛ فالسوادُ بياض الليل، والضوء توطئة الإعتام.
** القافُ تُوقف الفاء (قف)، والنون تدعو الميم للاسترخاء (نَم)، واللام تُملِّك الكاف (لك)، والالتصاق بينها يصنع لعبة الحروف، وحين درس الأستاذ عبدالله نور 1940- 2006م دلالات حروف اللغة العربية في القرآن الكريم فقد اقتادها إلى محكمة الشكل المفضي إلى المعنى؛ فالحاء في رسمها تشبه «الحية» التي قدِمت أولًا إلى الحياة، وهو حرفٌ وجوديٌ وفق تفسيره، وفي دلالات الشكل بيانُ الفصل والوصل.
** الحروفُ تصمد حين نصمت.