د. مساعد بن سعيد آل بخات
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان على الفطرة السوية, كما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة.. الحديث), إلا أنَّ الإنسان يتأثر بالبيئة المحيطة به من أسرة ورفقاء وجيران ومدرسة ووسائل الإعلام ونحو ذلك, مما قد تُغير في تشكيل شخصية الإنسان والتي يترتب عليها التأثير على سلوكياته التي يقوم بها في المجتمع سواء كانت سوية أو غير سوية, فإن كانت سوية فهو يتماشى مع قيم ومعايير المجتمع, وإن كانت غير سوية فهو مخالف لقيم ومعايير المجتمع وبالتالي فإنه يصبح مصدراً للخطر على المجتمع.
ومن الملاحظ أنَّ ظاهرتي الانحراف والجريمة تتزايدان في النمو وتتطوران بتطور المجتمعات في جميع أنحاء دول العالم, وتسعى المجتمعات البشرية جاهدةً على اختلاف مستوياتها للعمل على التصدي لهما والحد من خطورتهما, وذلك بإصدار التشريعات والقوانين والأنظمة واللوائح التي تحد من السلوك الضار والذي يخالف قيم ومعايير المجتمع.
لذا تُعد ظاهرتا الانحراف والجريمة من الظواهر التي نالت قسطاً كبيراً من الاهتمام لدى العلماء في مختلف فروع العلوم الاجتماعية, لاسيما في علمي القانون والاجتماع, فلا تمثل هاتان الظاهرتان مجرد خروج بعض أفراد المجتمع عن الأوضاع الاجتماعية والقانونية المعمول بها في المجتمع فحسب, بل إنها تكشف أيضاً عن مدى تقصير المجتمع بجميع قطاعاته في رعاية بعض أفراده على اختلاف أعمارهم بتوجيههم وإرشادهم نحو السلوك الأمثل الذي يضمن لهم التوافق مع القيم والمعايير المقبولة في المجتمع.
وتتضح خطورة ظاهرتي الانحراف والجريمة وأهميتها من عدة جوانب, ولعل أبرز هذه الجوانب يتجلى لنا من حيث إنَّ هؤلاء المنحرفين والمجرمين يشكلون خطراً كبيراً على حياة الآخرين من حولهم في المجتمع, من حيث إنهم عندما يمارسون سلوكهم الخاطئ بسرقة أو خطف أو تحايل ونحو ذلك مما يُعَرِّض أفراد المجتمع المسالمين للضرب أو القتل أو فقدان حِس الأمن والأمان.. إلخ, ويُعد هذا الأمر الأخير في حد ذاته من أعظم المصائب التي قد تحدث في مجتمع ما, لأنك قد تجد إنساناً فقيراً في المجتمع ويستطيع أن يحتمل هذا الفقر ويُكمل عيش حياته بلا افتعال مشكلات في المجتمع, ولكنك لن تجد إنساناً يحتمل انعدام الأمن والأمان في المجتمع لأنه سيكون عُرضة للقتل أو التهديد في أي لحظة.
قد يتساءل بعض أفراد المجتمع ما هو الانحراف؟ وما هي الجريمة؟ وما الفرق بينهما؟
يُعرف الانحراف بأنه «سلوك غير متوافق مع السلوك الاجتماعي السوي, أي أنه الخروج عن السلوك المألوف والمتعارف عليه في مجتمع معين مما يترتب عليه لوم وازدراء».
أما الجريمة فتُعرف اجتماعياً «كل فعل تعارض مع الأفكار والمبادئ السائدة في المجتمع».
كما تُعرف الجريمة قانونياً بأنها «ذلك السلوك الذي يُحرمه القانون بفعل أو امتناع عن الفعل, مما يترتب عليه عقوبة أو جزاء محدد».
فيتضح لنا من خلال هذه التعاريف أن الانحراف يسبق الجريمة, كما أنَّ تأثير الانحراف على المجتمع يُعد أقل خطورة من الجريمة, لذا يترتب على انحراف الفرد لوم وازدراء بعكس الجريمة التي يترتب على مرتكبها عقوبة أو جزاء محدد.
وبما أنَّ موضوع الانحراف والجريمة مرتبط بالعلوم الاجتماعية لذا يتوجب علينا أن نرجع لأُصول وأُسس هاتين المشكلتين بالبحث في النظريات المفسرة لهذه السلوكيات الضارة في المجتمع, ومن هذه النظريات ما يأتي:
أولاً: نظرية التفكك الاجتماعي (برجس):
يُعد العالم برجس أحد العلماء المؤسسين لنظرية التفكك الاجتماعي, والتي تعتمد فكرتها على أن الإنسان يرتبط ارتباطاً عضوياً مع البيئة التي يعيش فيها, ويتأثر بما يسود فيها من أوضاع, حيث يرى برجس بأن الأحياء القريبة من مركز المدينة التجاري تتصف بانخفاض المستوى الاجتماعي والاقتصادي لسكانها, حيث توجد بها مساكن للفقراء والأقليات والمهاجرين, مما يرفع بها معدل الانحراف والجريمة, بينما تنخفض معدلات الانحراف والجريمة في المناطق البعيدة عن مركز المدينة, والتي تتصف بارتفاع المستوى الاجتماعي والاقتصادي لسكانها, وهذا يعني أن الضبط الاجتماعي وفقاً لنظرية التفكك الاجتماعي يتمثل في الامتثال للمعايير المتشكلة من القانون, أما عوامل الضبط الاجتماعي في نظرية التفكك الاجتماعي فتتمثل في ارتفاع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي للأسرة, والتماسك الأسري, لذا فإنني أجد أنَّ نظرية التفكك الاجتماعي قد ركزت على عامل الفقر كمسبب لنشأة الانحراف والجريمة وأهملت عامل الغنى في الجهة المعاكسة للفقر, فقد يكون الشخص غنياً إلا أنَّ لديه حس الانحراف والجريمة بسبب جشعه وطمعه وضعف تنشئته الاجتماعية, ولنا في الحملة التي بادرت بها النيابة العامة ضد مرتكبي الفساد المالي والإداري خيرُ شاهد على ذلك حيث وُجِدَ من ضمن الأسماء المرتكبة للفساد المالي والإداري أُناساً عُرِفَ عنهم أنهم من أصحاب الطبقة الغنية.
ثانياً: النظرية النفسية (فرويد):
يشير تفسير نظرية فرويد للسلوك الإنساني عامة ومنه السلوك الإجرامي خاصة أنَّ هناك صراعاً عقلياً يدور في الذات الدنيا بما تمثله من غرائز ونزعات وميول فطرية, فتعمل الذات الشعورية «الأنا» على التوفيق بين الرغبات الصادرة عن شهوات الذات الدنيا وبين أوامر الذات المثالية وقيم المجتمع, فإنْ أفلحت جاء سلوك الإنسان متكيفاً ومنسجماً مع ما تتطلبه الحياة الاجتماعية, وإنْ أخفقت فسيسعى الإنسان إما إلى كبت رغباته وميوله وغرائزه في منطقة اللاشعور مما سيحولها إلى عقد نفسية وربما يتم التعبير عنها من خلال الأحلام, أو التسامي بالرغبات والشهوات والميول الفطرية والإعلاء منها وتصعيدها بحيث تتحول إلى أنماط سلوكية, لذا فإنني أجد أنَّ النظرية النفسية لفرويد أعلت من قيمة الغرائز والشهوات في أثرها على نشأة السلوك الانحرافي والإجرامي, كما أرى أنَّ نظرية فرويد أغفلت دور العوامل الاجتماعية والظروف البيئية المحيطة بالفرد في حدوث السلوك الانحرافي والجريمة, وأيضاً أجد أنه ليس بالضرورة بأن كل من يفعل جريمة فهو يعاني من مرض نفسي, فقد يكون بسبب تعاطيه للمخدرات أو بسبب جهله أو بسبب اختلاطه برفاق السوء وغير ذلك من الأسباب ذات الأثر الكبير في نشأة السلوك الانحرافي والإجرامي, كما أجد أنَّ فرويد وضع عذراً لمن يرتكب الجريمة بأنه مريض نفسي، فبالتالي هو بحاجة إلى العلاج أكثر من حاجته للعقاب.
ثالثاً: نظرية الاختلاط التفاضلي (سذرلاند):
شرحت نظرية الاختلاط التفاضلي التي قدمها سذرلاند كيفية انتقال السلوك الإجرامي عن طريق التعليم عن الآخرين أو من خلال الاحتكاك بالمنحرفين في تعلم الأشكال الإجرامية والبواعث والمبررات التي تشجع على ارتكاب الجريمة من خلال علاقات شخصية بين الأفراد المنحرفين, وبالتالي فإن السلوك الإجرامي مثله مثل أي شكل آخر من السلوك يتم تعلمه من خلال اختلاط الأفراد الوثيق بالآخرين, لذا فإنني أجد أنَّ نظرية الاختلاط التفاضلي قد ركزت على مدى اختلاط وتفاعل الفرد مع الآخرين, فقد يكتسب سلوكاً سوياً أو سلوكاً منحرفاً, بمعنى أنَّ هذه النظرية تركز على تأثير جماعة الرفاق على الفرد فإن كانوا إيجابيين فسيؤثرون به بشكل إيجابي, وإن كانوا منحرفين أو مجرمين فسيجرونه إلى الهاوية معهم, كما أجد أن العوامل التي تشجع على انحراف الفرد من وجهة نظر سذرلاند تتلخص في رفاق السوء, وضعف التنشئة الأسرية, وهذان العاملان لهما تأثيراً بالغاً في إضعاف قوة الضبط الاجتماعي لدى الشباب والفتيات.
وعندما نبحث فيما هي أسباب الانحراف والجريمة نجد أنَّها تنقسم إلى قسمين هما:
أولاً: أسباب داخلية: ويقصد بها هي مجموعة من العوامل الفردية المتعلقة بشخص المجرم من حيث الناحية البدنية أو النفسية أو العقلية, والتي يكون في توافرها أو توافر أحدها لدى هذا الشخص دورٌ مهم في تحديد السلوك الانحرافي كماً وكيفاً, ومن أهم هذه العوامل الداخلية التي اهتمت الدراسات القانونية والاجتماعية ببيان دورها في نشأة ظاهرة الانحراف وعلاقتها بالإجرام: الوراثة, التكوين العضوي, الجنس, السِّن, الإمكانات الذهنية, المرض, إدمان الخمور والمخدرات, فمثلاً: عندما نبحث عن مدى تأثير إدمان الخمور والمخدرات على الفرد المجرم نجد أنَّ بعض الدراسات أثبتت أن تناول الخمور والمخدرات أو إدمانها له تأثير مباشر على الفرد من جميع النواحي البدنية والذهنية والعقلية, فيؤثر على إرادة الفرد في السيطرة على تصرفاته مما يقلل من قدرته على مقاومة دوافع الجريمة.
ثانياً: أسباب خارجية: ويقصد بها هي مجموعة من العوامل المحيطة بالفرد والتي تؤثر في تكوين شخصيته واتجاهات سلوكه, وهذه العوامل متعددة منها ما يتصل بالبيئة الاجتماعية الخاصة بالفرد كالأسرة والمدرسة ومحيط العمل ومجتمع الأصدقاء, ومنها ما يتعلق بالظروف والأحوال الاقتصادية كالفقر والبطالة وحالة المسكن, ومنها ما يتعلق بالبيئة الثقافية المحيطة بالفرد من تعليم ووسائل إعلام وتأثير الدين والعادات والتقاليد داخل المجتمع, ومنها ما يتصل بالعوامل الطبيعية من الموقع الجغرافي والمُناخ, فمثلاً: عندما نبحث عن مدى تأثير رفقاء السوء على الفرد المنحرف, نجد أنَّ هنالك دراسة أُجريت عن مدى تأثير رفاق للسوء على انحراف الأحداث, فكانت النتيجة أنَّ 57.1 في المائة من الأحداث المنحرفين يُرجِعون سبب انحرافهم إلى رفقاء السوء.
وعندما نبحث عن سُبل الوقاية من الانحراف والجريمة, نجد أنَّ نشأة سلوكي الانحراف والجريمة تتطلب تكاتف جهود جميع مؤسسات المجتمع, لأن المسؤولية تقع على عاتق المجتمع ككل وليست مسؤولية الأسرة فحسب, أو مسؤولية رجال الأمن فقط, لذا سأضع هنا مجموعة من السُبل التي قد تكون مُعينة في الوقاية والحد من نشأة ظاهرتي الانحراف والجريمة في المجتمع, ومنها ما يأتي:
أولاً: تقوية الوازع الديني عند الفرد, بالتمسك بكتاب الله تعالى والاقتداء بسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-, فهما كالحصن المنيع وأقوى رادع في وجه الانحراف والجريمة.
ثانياً: الفهم الصحيح للتعاليم الدينية, بلا تشدد ولا تفريط, لأنَّ ذلك يساعد على ضبط سلوكيات أفراد المجتمع والحفاظ عليهم من الوقوع في الانحراف والجريمة.
ثالثاً: أنْ تؤدي الأسرة دورها في التنشئة الاجتماعية كما يجب من تزويد أبنائها وبناتها القيم الأخلاقية والمبادئ التربوية الإسلامية واحترام القانون والعادات والتقاليد والأعراف التي تتوافق مع معايير المجتمع.
رابعاً: أنْ تُكمِل المدرسة ما بنته الأسرة في أبنائها وبناتها من التنشئة الاجتماعية بغرس القيم والأخلاق في نفوس الطلاب والطالبات, وإكسابهم بعض المهارات والاتجاهات التي تساعدهم على حُسن التعامل مع المواقف الحياتية.
خامساً: تدريس مادة القانون كمقرر في المرحلة الثانوية, مما من شأنه تزويد الطلاب والطالبات بالمعارف القانونية اللازمة, ليعرفوا حقوقهم وواجباتهم, أو بعبارة أخرى: ما الذي لهم؟ وما الذي عليهم؟
سادساً: استخدام المناهج الدراسية في تعزيز قيمة المواطنة وحب الوطن والانتماء إليه, ونبذ كل تطرف أو غلو أو فعل إرهابي, وتقديم الأدلة والبراهين على خطأ أفكارهم ومبادئهم, والتحذير من التأثر بهم أو مساعدتهم فهم أعداء للوطن والمواطنين والمواطنات.
سابعاً: حث الطلاب والطالبات على مصاحبة الأخيار والابتعاد عن رفاق السوء الذين سيكونون سبباً في الوقوع في مزالق الانحراف والجريمة.
ثامناً: نشر الوعي وتثقيف الناس من خلال وسائل الإعلام المختلفة بأهمية احترام الآخرين, ووجوب التقيد بالأنظمة والقوانين, وتبيين الأثر السلبي الذي يخلفه الانحراف والإجرام على صاحبه نفسياً وجسدياً واجتماعياً.
تاسعاً: مساعدة السجون على أداء رسالتها في التهذيب والإصلاح وعلاج المجرمين لمنع عودتهم للجريمة مرة أخرى, كعقد برامج تدريبية تربوية للسجناء, وإحضار أشخاص مؤثرين بشكلٍ إيجابي في أفراد المجتمع لمناصحتهم وتوجيههم للمسار الصحيح.
عاشراً: أمن المجتمع مسؤولية الجميع, فحينما يعتبر الفرد نفسه مسؤولاً عن الحفاظ عن أمن الوطن وممتلكاته, فإنه سيلتزم بالنظام, وسيعزز من قيم الإخاء والتضامن والانتماء, وسيوجه وينصح كل من ينحرف عن الطريق السوي, وسيكون مُعيناً لرجال الشرطة في القبض على كل من يخالف النظام ويريد العبث بأمن الوطن.
ختاماً..
تزداد نسبة الانحراف والجريمة بين أفراد المجتمع كلما قَلَّت نسبة الضبط الاجتماعي, والعكس صحيح.