تابعت باهتمام يوم 25 أبريل الماضي البرنامج التلفزيوني المميز «الراحل»، والذي يُقلِّب صفحات الذكرى حول رجال مضوا وتميَّزوا بأعمالهم الجليلة في خدمة المجتمع، وكانت حلقة ذلك اليوم عن شخصية لم تكن مميزة فحسب، بل فريدة من نوعها، قامة قامت بدور كبير في خدمة البلاد والمشاركة في تأسيس أطرها الإدارية والمالية، حيث كان اللقاء عن وزير المالية الأشهر معالي الشيخ عبدالله السليمان -رحمه الله- أحد أبرز رجالات الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- في مرحلة التأسيس وانطلاق التنمية، حيث كان له دور في وضع الأطر التنظيمية لها ورسم السياسات التي انطلقت منها البدايات لما نعيشه اليوم من تطور شامل في جميع مجالات الحياة، ولم تكن البدايات سهلة، بل كانت غاية في الصعوبة مما تطلب من الملك عبدالعزيز أن يتم اختيار من هم من الرجال بحجم صعوبة المهمة الشاقة ممن لديهم بُعد نظر لا ينقطع وطموح لا يتوقف وعزم لا يلين وإخلاص لا يداخله شك.
وكان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- خير من تتوافر فيه ملَكة فحص الرجال وانتقاء الأقدر منهم، ولهذا وقع اختياره على معالي الشيخ عبدالله السليمان ليكون وزيراً للمالية، ولم تكن وزارة المالية في ذلك الوقت مقتصرة على المهام المعروف عنها حالياً، بل كانت تُعنى بخدمات التنمية الشاملة في جميع مناحيها، وذلك قبل أن تكون ثمة تشكيل وزاري متكامل في بدايات الدولة السعودية، إذ إن مهام وزير المالية تشمل آنذاك وضع التصورات التنموية في كل مناحي الحياة، ورسم الخطط التنفيذية لطموحات الموحد العبقري الملك عبدالعزيز - رحمه الله.
وحين طلب معالي الشيخ عبدالله السليمان من الملك سعود -رحمه الله- التقاعد بعد أن تقدم به العمر، وصعب عليه أداء ما هو مناط به من مهام بالصورة التي اعتاد عليها، تحقق له ما أراد بالاستجابة لطلبه تقديراً لخدماته الجليلة في عهد الملك الموحد عبدالعزيز ثم في عهد الملك سعود - رحمهما الله.
بعد تقاعده اختار الشيخ عبدالله السليمان أن تكون مزرعته بالزغيبية شرق مدينة عنيزة بمنطقة القصيم مكاناً لنيل الراحة من حين لآخر قادماً من مقر إقامته في جدة، وكان والدي -رحمه الله- تربطه علاقة قوية بالشيخ عبدالله السليمان فيزوره في المزرعة وكنت مرافقاً لوالدي -رحم الله الجميع- في زياراته.
وكان اللقاء بين والدي والشيخ عبدالله السليمان ماتعاً في الحديث مع رجل حظي بثقة مميزة من الملك المؤسس وبعده مع الملك سعود، ولم يكن موظفاً عادياً بل كان رجلاً فوق العادة مقربًا جداً وموثوقًا به جداً ما جعله متمكناً من اتخاذ القرار وتقديم المشورة والاطلاع على خفايا الأمور. كان حديثه عن الملك عبدالعزيز في مزرعته في عنيزة حديث المحب له شديد التعلق به، متواصل الترحم عليه، ينقل عن الملك عبدالعزيز بعد أن دانت له الجزيرة، وتوحدت تحت رايته الدولة السعودية الثالثة، بأطرافها المترامية، وقبائلها المتناحرة، وجغرافيتها التي تخلو من الموارد الطبيعية التي تعين على بسط الرخاء آنذاك، فلا أنهار، ولا موارد مائية، ولا غابات زراعية، وحتى التعليم كان مقصوراً على أعداد محدودة جداً لا تستطيع النهوض ببلد يطمح قائده إلى الأخذ به نحو مقدمة الدول المتحضرة، لكنه بتوفيق الله أولاً ثم نيات الملك عبدالعزيز وطموحه الذي لا يُحد، كانت البداية في الاهتمام ببسط الشريعة الإسلامية السمحة كنظام للحياة والتشريع في المملكة العربية السعودية، حيث قرَّب العلماء، ووحَّد صفوفهم، ومكَّنهم من نشر العلم النافع، ووضع الأسس الشرعية للمحاكم وأنظمة الحكم، ثم اهتم بأهم مَعْلَمين في المملكة المسجد الحرام والمسجد النبوي لما لهما من مكانة خاصة في قلب كل مسلم، وسعى إلى تطويرهما وتوسعتهما لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج والمعتمرين والزائرين من أنحاء العالم كافة. ولأن التعليم هو أساس النهضة الحديثة فقد كان له اهتمام خاص من المؤسس، ومتابعة شخصية منه للاطمئنان إلى التوسع فيه بسطاً ومضموناً، وحسن اختيار القائمين عليه، ما يسَّر انتشار التعليم والإقبال عليه بصورة فاقت التوقعات، وكانت نظرته القيادية الفذة على علم بأن البلاد التي لا تستطيع توفير غذائها ذاتياً أو الجزء الأكبر منه ستكون خاضعة لغيرها، فكان للزراعة اهتمام خاص بذل فيه ما مكَّنه من أن يحيل هذه الصحراء القاحلة إلى رياض غناء تنتج الكثير من احتياجات الوطن والمواطن بمحصولاتها الزراعية الأساسية، وكان يعي جيداً أن وطنًا لا نحميه لن يطيب العيش فيه، خاصة وقد أدرك المشكلات المحيطة ببلاده من جهات عدة، ولن يحمي هذا الوطن -بعد الله- غير سواعد أبنائه، فعمَّد إلى وضع اللبنات الأولى لجيش قوي في فروعه المتنوعة التي يتطلبها التطوير في هذا المجال مع الحرص على متابعة المستجدات فيه، بحيثيتكون في نهاية المطاف من جيش سعودي قوي قادر على الدفاع عن بلادنا المقدسة. وبالنسبة للأمن الداخلي فقد كان محل اهتمام الملك، كما أنشأ لهذا الغرض أجهزة أمنية تم تدريب منسوبيها على أحدث ما يتطلبه أمن البلاد واستقراره.
ولأن الإنسان السعودي هو الأساس في اهتمام الملك عبدالعزيز ومن بعده أبنائه البررة فقد كان لهم أيادٍ بيضاء في تحقيق وبسط الرخاء وتوفير الضرورات، رغم أن موارد الدولة حينها وقبل اكتشاف النفط لم تكن تواكب التطلعات، لكن حسن التدبير والإخلاص في الأداء، وشمولية الرعاية كانت كفيلة بتوزيع حسن للمقدرات، فلم يغب عن ناظريه حال الفقراء أو المعوزين ولا الأيتام والأرامل والعجزة والمنقطعين، فبذل لكل فئة ما يعينها على العيش الكريم ويشجع على تطوير الذات وصولاً إلى الاكتفاء.
وسعى -رحمه الله- إلى أن يكون للمملكة مكانتها اللائقة بين الدول، فاختار الرجال الأَكْفَاء لتجسيد الروابط الحسنة مع الدول الشقيقة والصديقة وحل المشكلات التي قد تنشأ مع الدول، فكان بحق وحقيقة ملكًا وهبه الله لهذه الأرض الطاهرة لينتشلها من الفرقة والتناحر والعوز إلى الوحدة والتعاون والرخاء.
هذه كانت خلاصة من الذاكرة لفحوى أحاديث معالي الشيخ عبدالله السليمان -رحمه الله- عن الملك الموحد عبدالعزيز -رحمه الله- في مجلسه بمزرعة الزغيبية، وكان يؤكد أن من يعيش منا فسيرى تطوراً تعجب منه النفوس، وتذهل منه العقول، خاصة وقد وهب الله هذه البلاد الثروة النفطية التي تم اكتشافها في الأراضي السعودية، وبذل الملك عبدالعزيز جهده لاستثمارها بشكل سليم، خاصة بعد أن تم توقيع اتفاق استخراج البترول مع شركة أرامكو التي سيأتي اليوم الذي يديرها أبناء الوطن الذين تدربوا لهذا الغرض أحسن تدريب.
(الخلاصة)
ها نحن نرى مصداقية لحديثه واقعاً تحقق بعضه في عهود مضت على أيدي الملوك البررة -رحمهم الله- ولا تزال قافلة التطور والتنمية تشق طريقها بكل ثقة واقتدار تسابق الزمن في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان.
رحم الله الملك عبدالعزيز وأبناءه البررة، ووفَّق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان الذي يعمل ليل نهار مع نخبة ممتازة من المستشارين لتطوير شامل لكل نواحي الحياة والتي تحقق الكثير منها والباقي في الطريق، ورحم الله معالي الشيخ عبدالله السليمان وزير المالية التاريخي، وأدام على بلادنا الخير والرخاء والأمن والإيمان، وبحول الله ستظل هكذا ومن حسن إلى أحسن طالما أنها لن تحيد قيد أنملة عن الأسس التي أسسها الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه وجعل الجنة سكناه.
هذا ما أردت أن أضيفه إلى ما جاء في الحلقة المشار إليها، وما أضفته قليل من كثير مما كان يتحدث به معاليه عن الملك عبدالعزيز.