د.صالح العبدالواحد
لا شك أن اتهام 90 % من الأطباء من قبل أحد الزملاء في مقابلة تلفزيونية عرضت مؤخرًا قد سبب ضجة ضمن بعض المهتمين بهذا المجال ويجب ألا يمر مرور الكرام.
للأسف الشديد ما أن انتهينا من برامج الحوارات العربية التي تتناول الوجبة المفضلة للضيف، واللون الذي يعجبه، حتى بدأنا عصرًا جديدًا من تلك البرامج وهو إثارة العواطف الشعبية دون حقائق.
لم يتم تقديم أي دليل مادي أو استضافة أي اقتصادي ليوضح تلك الأرقام التي تم تداولها وتقديمها وكأنها حقيقة ثابتة بينما المرجع الوحيد هو «خذ مني العلم».
وأقول للزميل: هل تعلم غفر الله لك ذنبك وهداك، بأن المرء يقول الكلمة لا يلقي لها بالًا فيهوي بها سبعين خريفًا في النار؟ ومرجعي في ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام. كيف ستواجه آلاف الأطباء يوم القيامة وقد اتهمتهم على رؤوس الأشهاد بدون دليل ولا بينة بخيانة المهنة؟
هل تعلم أن الطلبة الآن ينقسمون أمامك إلى قسمين، الأول لا يصدقك ويرمي بكلامك عرض الحائط وتلك مصيبة، والقسم الآخر يصدق ما تقول من ادعاءات باطلة وذلك لثقته فيك، والمصيبة هنا أكبر! حيث سيتم تداول تلك المعلومات الباطلة أمام أجيال المستقبل وكأنها مسلمات وحقائق.
ألم تعلم أخي العزيز أن أجرة الطبيب التي تعترض عليها قد حددها أحد ملوك التاريخ واسمه حمورابي منذ أربعة آلاف سنة حيث قام بتحديد أجرة طبيب جراحة العيون بعشرة مثاقيل من الفضة وذلك في المادة 215 من «قوانين حمورابي»؟
أما مقدم البرامج الذي وقع في أخطاء لا حصر لها فماذا عساي أقول.
هل ممكن توضيح «الهدف» من نشر معلومات «صادمة» بدون أي مرجعية؟
عندما نقوم بضرب المثل في برامج الحوار الغربية فنحن نقدم منهجًا ورؤية واضحة وأسلوبًا هادئًا وكلامًا مقنعًا.
لقد استضافت «أوبرا وينفري» في برنامجها ومباشرة بعد تفجيرات سبتمبر في نيويورك، جمعًا غفيرًا من المسلمين لتنقل للأمريكيين الساخطين الصورة الحقيقة للمسلمين وبأنهم لا يؤمنون بالقتل والإرهاب. هذا «هدف» واضح وراق ونبيل في وقت قاس ومؤلم للشعب الأمريكي يهدف الحفاظ على تجانس المجتمع ومنع الغضب غير المبرر. بالطبع هناك هدف واضح ورسالة يتم نقلها للشعب مع كل حلقة، إما لتضميد الجراح، أو محاربة العنصرية أو تصحيح الفكر الضال وغير ذلك. فما هو الهدف من استضافة استشاري في الطب للبحث في الاقتصاد الطبي؟
لم نحصل من تلك المعلومات سوى بث الشكوك لدى المواطن. فكل طبيب الآن يقوم بطلب أشعة أو تحليل دم متهم بخدمة مصلحته الشخصية بعد هذا البرنامج! كيف سيعمل الأطباء إذاً؟
يجب على كل مذيع التحقق من المعلومات التي سيتم تناولها في الحلقة قبل أن تبدأ، وعدم السماح لأي ضيف بأن يلقي التهم جزافًا لشخص آخر في غيابه.
ورغم أن الأمر لا يحتاج إلى دراسة عميقة لمعرفة أنه عند حساب تكاليف الكشف أو العملية الجراحية بأن تلك الأجرة تتضمن رواتب كل من موظفي الاستقبال والتمريض وقسم المواعيد والنظافة ورسوم إقامة الوافدين السنوية وتذاكر إجازاتهم والضريبة المضافة ونسبة المخاطرة، وكذلك يتم حساب العائد على رأس المال وإيجار المبنى السنوي وفواتير الكهرباء والماء وحساب الإهلاك سواء للموجودات العامة أو الأجهزة الطبية فكل جهاز طبي يتم إحالته للمستودع فور ظهور موديل جديد يحتوي على تحسينات تساعد الطبيب وتخدم المريض في العمل.
دور المحاور في الإعداد وتحضيره لدفة الحوار يجب أن يشمل التحقق من الإجابة الصحيحة ليتم محاورة الضيف بكل موضوعية. يجب ألا يقبل المحاور بأي شكل من الأشكال أي معلومة قد تؤدي إلى تضليل المجتمع سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث إن الخبر الخطأ قد يخلق بلبلة باطلة عن الخدمات الصحية وتكاليفها التي تنوء بها العصبة أولو القوة من الأمم، وتقدمها دولتنا للمواطنين مجانًا.
وبما أن أهم «محور» في النقاش كان أجرة الطبيب، وبما أنه قد تم البت به منذ أربعة آلاف سنة، فكل ما هو مطلوب في تلك الحلقة هو سؤال أحد الاقتصاديين المتخصصين عن ما تعادله 110 غرام من الفضة، وهي أجرة طبيب جراحة العيون منذ أربعة آلاف سنة، مقابل دخل الفرد في ذلك الوقت، ومقاربتها للنقد في وقتنا الحالي حسب دخل الفرد بين الحقبتين الزمنيتين. وبهذا تنتهي الحلقة!
إن دور الإعلامي في بناء المجتمع مبني على تقريب وجهات النظر، وتوضيح أسباب سوء الفهم وشرح الخفايا التي ما زالت الدولة تتكبدها في محاولة تقديم خدمة صحية يسهل الوصول إليها، مع الحفاظ على مستوى راق من الخدمات الطبية.
يجب بالطبع حوار المسؤول في نقاط التقصير، فهي النقاط التي ينتظرها المواطن والطبيب وجميع موظفي القطاع الصحي. فأين دور الإعلام من البحث في ذلك؟
كما يجب توضيح غلاء الخدمات الطبية من قدم التاريخ، ولذلك تتواجد العيادات الخيرية والجمعيات التطوعية المتعددة في جميع دول العالم بما فيها بلادنا ولله الحمد وتعمل هذه الجمعيات السعودية داخل المملكة وخارجها. وكان الأجدر البحث عن تلك الجمعيات الوطنية وتقديم خدماتها إن لم يكن تقديم الشكر لها.
من المفيد في هذه البرامج توضيح أهمية إجراء الفحوص الطبية أو الشعاعية للمريض والتي تساعد الطبيب في الوصول إلى التشخيص المناسب وتقديم أمثلة، حيث إنه قد يختلف كل مريض عن الآخر في الأعراض التي يشكو منها لطبيبه. كما يجب توضيح أن الإدارة الصحية لها دور في تحقيق بعض المستشفيات الخاصة للأرباح وليس الأمر على كل حال مرهون باستغلال المرضى.
الطبيب الناجح لا يحتاج للتعاطف مع حقيقة حياته، من اجتياز أصعب الاختبارات العالمية ودخوله دور الند مع خريجي كليات الطب في دولهم ليتفوق في ألمانيا وكندا وأمريكا على أصحاب الأرض، ويحصل على شهادة تؤهله للعمل في تلك الدول بكل سهولة، ولكن في نفس الوقت لا يمكن للطبيب السكوت عن اتهامات باطلة.
الطب هو المهنة الوحيدة التي يتم تقديمها من منطلق الحب والود ولا يمكن أن تأتي بالإكراه أو بسيف العقاب، لذلك فإن التعامل مع الأطباء من مبدأ «حماية المستهلك» يعتبر أسوأ خطوة يمكن المطالبة بها.
بالطبع، يجب على كل من يعمل في هذه المهنة أن يقوم بتقييم نفسه، تقييمًا صادقًا موضوعيًا، إما أن يملك هذه الخصائص أو ليترك المهنة لأهلها.
ولا يسعني إلا أن أطالب وزارة الصحة القيام بدورها في هذا الاتهام العلني الموجه لها مباشرة بصفتها الجهة الرقابية والتشريعية. إما أن يثبت لدى الوزارة حقيقة هذا الاتهام وتعلن عبر المتحدث الرسمي خطوات التصحيح لحماية المواطنين من هذا الاستغلال، ويتم تقديم الشكر للطبيب ومقدم الحلقة، أو أن يثبت لديها بطلان هذا الاتهام لتقوم باتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة ضد من اتهم 90 % من الأطباء بالاستغلال، إن لم تكن بالخيانة.
أما أن يترك الأمر للمواطن لاكتشاف حقيقة الاتهام فهذا بالطبع أمر غير مقبول.
** **
زمالة جامعة الملك سعود في أمراض الأنف والأذن والحنجرة - زمالة الكلية الملكية الكندية للجراحة - زمالة جامعة ألبرتا في جراحة قاع الجمجمة