رحل عن عالمنا لكنه لم يرحل عن قلوب الكويتيين، ولا عن ذاكرة المجتمع الدولي. رجل عاش بين السحاب أكثر مما مشى على الأرض! نام على مقاعد الطائرات أكثر مما نام على سريره! سبعون عامًا من الوظيفة الحكومية جعلت منه أعتق وزير خارجية في العالم. لم يكن يمارس الدبلوماسية فحسب، بل كان يتنفسها ليل نهار في أحلك سنوات الحرب الباردة بين القوتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي). كان يحمل الكويت بين يديه، ويسير على سلك مشدود مربوط بين جبلين: موسكو وواشنطن. ومن أجل حماية هذا الزورق الصغير المحمل بشعبه المسالم كانت سيارته تخرج من بوابة «الكرملين» لتدخل إلى «البيت الأبيض»!! عقب استقلال الكويت استقرأ المستقبل، وكانت بلده الأولى بين دول الخليج التي أقامت علاقات دبلوماسية مع موسكو لعلمه ويقينه أن البيض لا يوضع في سلة واحدة!
كان ناعمًا في حديثه، لكن كلماته أكثر صلابة من الصوان! عقب عدوان وهزيمة 67 ترأس الأمير الراحل وفدًا من نحو 10 وزراء خارجية عرب، قرروا الذهاب إلى واشنطن ولقاء الرئيس الأمريكي «ليندن جونسون» لإقناعه بإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في الأيام الستة. وكعادة الأمريكيين في علاقتهم مع الكلاب، دعا الرئيس الوزراء لتناول طعام الغداء على مائدته مصطحبًا معه كلبه! ابتدأ وزراء الخارجية حديثهم إليه حول موضوع الحرب والأراضي التي احتلتها إسرائيل في الوقت الذي انشغل فيه الرئيس «جونسون» باقتطاع أجزاء من اللحم الموجود في صحنه ليدسها في فم كلبه، وليخاطبه أمام ضيوفه قائلاً: «هل تعلم يا كلبي العزيز أنك أفضل مَن يجلس معي الآن على طاولة الغداء»؟! صمت كل وزراء الخارجية، وبلعوا ألسنتهم إلا الشيخ صباح الذي قام فجأة من كرسيه وغادر المكان وحيدًا، بينما استمر الوزراء التسعة يرتشفون الماء القراح بصحبة كلب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية!
استقبلني في مكتبه في وزارة الخارجية في ديسمبر عام 1988 بعد أن صدر قرار بمنعي من الكتابة، ودار بيننا حديث طويل، ختمه هو بسؤالي: كيف يراني الناس في الكويت؟ قلت له: شيخ مليونير ووزير خارجية ناجح! ضحك كثيرًا، وقال إن الناس لا تعلم أنني قد اقترضت 50 ألف دينار من أحد الشيوخ المليونيرية «وذكر لي اسمه»، ثم أكمل: «هل تعلم أنني أعمل بموارد مالية عادية، وليست بالضخامة التي يتصورها الناس عني»؟
قابلته ثانية بعد عامين داخل قصر المؤتمرات في جدة خلال المؤتمر الشعبي الذي انعقد في أكتوبر من عام 1990 ففاجأني بالقول: «لماذا لا تكتب»؟ فقلت له: «أنا ممنوع من الكتابة بأمر من معاليكم منذ اجتماعنا في مكتبكم قبل سنتين، فكيف أكتب»؟ رفع يده وهزها في إشارة للرفض قائلاً: «الغزو يجبّ ما قبله. المساجين في المركزي خرجوا من السجن، والكويت في المجهول. عد إلى الكتابة في أي وسيلة متاحة»!
زرت المرحوم جاسم الخرافي في ديوانه في البدع، وكان الشيخ صباح وقتها رئيسًا للوزراء. وكعادة المرحوم الخرافي في المداعبة سألني: «كم هي مدة أحكام السجن الصادرة ضدك بسبب المقالات»؟ فقلت له: «مجموعها يصل إلى نحو 22 شهرًا». هنا قاطعنا المغفور له قائلاً وهو يبتسم: «لكننا لم نسجنك. كل أحكام السجن ضدك كانت مع وقف التنفيذ»!
اعتاد -رحمه الله- على الاهتمام والتقدير للدبلوماسيين والصحفيين حتى أنه كان وراء إصدار الأمر لسفير الكويت الأسبق «إبراهيم المنصور» في أبو ظبي لتسهيل مهمتي في لقاء حاكم قطر المعزول الشيخ «خليفة بن حمد آل ثاني» بشرط أن يتم ذلك «بسرية تامة» حتى لا تعتبرها الدوحة «عملاً عدائيًّا» ضدها!!
رحل «صباح الأحمد»، لكنه لم يرحل عن ذاكرة الذين أحبوه، وحتى عن ذاكرة الذين خاصموه!
** **
- فؤاد الهاشم