عبده الأسمري
تحدثت على مدار الشهر الماضي في محاضرات متخصصة عن المناعة النفسية أمام نخبة من الأطباء النفسيين والمستشارين والأكاديميين والمدربين وأصحاب الرأي وذوي الخبرة في إحدى المنصات المعرفية.. وقد اخترت هذا الموضوع لأمرين رئيسيين، الأول أنها المرة الأولى التي يُطرح فيها هذا المفهوم، واستخدمت خلاصة تجربتي وقاعدة تخصصي في توظيف المعلومات وتوصيف المعاني.. والثاني.. أنني أرى غياباً تاماً من العيادات النفسية والمراكز الاستشارية وحتى الجامعات بتخصصاتها ودراساتها العليا عن تأسيس مناهج في هذا الموضوع، الأمر الذي جعلني أبدأ فعليًا تأليف كتاب عن ذلك وإعداد مشروع وطني لمنهج متخصص في هذا الجانب أضعه أمام الوزارات والجهات التعليمية والتدريبية لتأسيس هذا المفهوم واستخدامه في تأهيل المتخصصين وتخريج المهنيين واتباعه كأسلوب رئيسي ومفهوم جديد في العلاج النفسي والسلوكي.
رأينا وشاهدنا استنفار «العالم» أجمع بعد فايروس كورونا للتقيد بتعليمات «المناعة العضوية» التي تحمي أجهزة الجسد من العدوى، وأصبح الصغير قبل الكبير ملماً بتفاصيل الوقاية ومفصلات الحماية بعد أن صاح العالم بصوت واحد بحثًا عن «النجاة» من فيروس غامض لا يرحم من تهاون أو تغافل عن اتباع سبل الثقافة الصحية الاضطرارية والحتمية، في وقت تظل فيه ثقافة المجتمعات بشأن المناعة عميقة وغارقة منذ القدم حتى أن الأميين يواجهون ويلات الأمراض بالطب البديل والأعشاب منذ عقود خلت.. وسط تطور متزايد للطب الحديث في المناعة الحيوية بشكل مذهل من خلال دراسات وبحوث لا تنتهي في ظل «يقين» اجتماعي مذهل بإيجابيات العناية و»تيقن» شعبي مهول بواجبات الرعاية التي تشمل الأجهزة المختلفة من جسم الإنسان.
أما فيما يخص المناعة النفسية فقد ظل مفهوماً «غائباً» بفعل غياب منصات «التوجيه»، و»مغيباً» بواقع تغيب جهات «التثقيف»، الأمر الذي رفع معدلات الأمراض النفسية، ولا أبالغ أنه لا تخلو أسرة من وجود مريض نفسي بينها سواء كان معروفاً وقفز من أسوار «الخجل الاجتماعي» وتعالج أو مجهولاً سقط في أعماق «الانعزال الأسري» وصمت!!
لدينا خلل أزلي في وسائل العلاج النفسي والسلوكي، فعيادات الأطباء النفسيين لدينا تعتمد على الجرعات الدوائية وتغفل عن جانب الجلسات السلوكية ومساندة النواحي الاجتماعية، في حين تظل أسرة المريض في منأى عن إعانة مريضها ومعزل عن إغاثة فردها.. وإن وجد أخصائي نفسي مع الطبيب النفسي غاب الأخصائي الاجتماعي، وإن وجد الأخير غاب الثاني.. في وقت نبعت لدينا «ظاهرة» جديدة وهي الكم الكبير من المستشارين النفسيين والأسريين والسلوكيين الذين ما إن يأخذ الواحد منهم دورة أو محاضرة أو شهادة لا نعلم مصدرها حتى ينعت بالخبير!! ويوصف بالمعالج، في وقت تغلب هذه الكثرة «البراعة» بكل معانيها..
المناعة النفسية «علم» في حد ذاته يجب البحث في أسراره والغوص في أعماقه، وكم هي أمنيتي أن نرى في قادم الأيام متخصصين في هذا الجانب، فمع الأسف نشاهد عشرات «الألقاب» و»التخصصات» الدقيقة في المجال الطبي البشري والجراحي ولكننا لم نر أو حتى نسمع لقب أو مسمى «أستاذ المناعة النفسية» حتى الآن، لذا آن الأوان لمشروع منهجي يعطي هذا التخصص حقه من التأسيس وأحقيته من المهنية..
المناعة النفسية «السبيل» الأهم في وقاية «الجهاز النفسي» من سطوة الأمراض وحماية النفس من سلطنة الظروف وسلطة الصدمات.. وهو «الدليل» الأهم في تخفيف أعراض المرض وتجفيف «منابع» الخطر.. بدءاً من العلاج ومروراً بالتحسن ووصولاً إلى «الشفاء»..
وهي الخط الدفاعي أمام كل مؤثرات الحياة وتأثيرات العيش، وهي الوسيلة الأقوى في منع «انتكاس» حالة المرضى بعد شفائهم ومنح كل أفراد الأسرة «صحة نفسية» تجعلهم يعيشون بأمن نفسي وأمان سلوكي، وهي الغاية التي يجب أن يصل إليها الباحثون عن «الصفاء» والماضون إلى «العطاء».
غاب مفهوم المناعة النفسية فارتفعت معدلات القلق وزادت مستويات الاكتئاب وتنامت إحصاءات المراجعات وانتشرت ظاهرة العنف وتزايدت أعداد الاستشارات.. في ظل «تغييب» لتقصي الأسباب وتتبع المسببات بحثًا عن دراسات متخصصة ومناقشات اختصاصية في مجال العلاج النفسي الذي لا يزال يسير في منحنيات من البيروقراطية الدوائية التي تمسكت بتسكين الدواء وتجاهلت ثورة الداء..
نحتاج إلى حضور طاغٍ للمناعة النفسية في شتى اتجاهات الحياة ووسط كل موجهات التعايش..