د.خالد بن محمد اليوسف
قالوا: ما بعد كورونا ليس كما قبله.
وفي كل يوم.. ويومًا بعد يوم.. وفي شتى مجالات الحياة، تتأكد هذه المقولة! فلا شيء عاد كما كان سوى الشمس والقمر والحجر والشجر والبحر والنهر، أما ما دونهم فقد تغيّر كثيرًا.
تخرج فترى الناس غير الناس، والأرض غير الأرض؛ فقد توارت الأوجه خلف أقنعة متعددة ومتنوعة، يجمعها الخوف من هذا الفيروس الخطير (كورونا)؛ فبالكاد ترى أطراف الوجه والعينين تتحركان فتنظران بتوجس وخوفًا من أن يقترب أحد منها أكثر مما يجب؛ ففي التباعد خير!
مضت الأيام تعقبها الأيام، ودخلت في زمن الشهور، وربما تدخل في زمن السنوات، ومع ذهاب الأزمان الكورونية بدأ الإنسان في مسايرة الأمور، وتدبير الحلول، وفك طلاسم هذا الضيف الثقيل (كورونا) الذي أبى إلا أن تكون إقامته خارج أُطر العقل والعرف والعادة!
فعاد العمل عن بُعد، وعادت الصحة عن بُعد،
وعادت الاجتماعات عن بُعد، وعادت الحياة كلها أيضا عن بُعد.. ففتحت أبواب المساجد للصلاة ولكن متباعدين، وأبواب المتاجر للتجارة ولكن متفرقين، وأبواب المساكن للزيارات ولكن بلا مصافحة، فضلا عن المعانقة والتقبيل، تماشيًا مع تعليمات جديدة احترازية صدرت، ولوائح نظامية وضعت؛ فأعادت الأمور إلى نصابها، وأثبت المجتمع أنه أهلٌ لهذه التعليمات فالتزم بها.
توقفت في جميع هذه التعليمات أفكار الماضي، وولدت أفكار الحاضر الكوروني الجديد؛ وبذلك بدأت مرحلة جديدة، امتزجت فيها العقول مع الأفكار والحلول، وتكيفت فيها الأجساد البشرية مع كل الأحوال والظروف.. فتغلب الإنسان، ذلك المخلوق الذكي المدني، على (كورونا)، ذلك المخلوق الوبائي الخطير؛ فهزم الإنسان (كورونا) حتى الآن في مباراة الحياة التي لا يزال فيها فريق كورونا يقاوم ويحشد جنده لهجمات شتائية قادمة أخرى، يتوعدنا بها، وربما يغير بها خططه الحالية الدفاعية إلى خطط أخرى هجومية؛ علّه يأخذ بزمام النصر مرة أخرى ما دام وقت المباراة بين الفريقين لم ينتهِ.
عاد كل شيء في الحياة وفق طبعة (كورونية) محدثة.
عادت الحياة تدريجيًّا، وعاد معها أهل الحياة يعملون ويتعلمون ويتاجرون ويتزاورون.. ولكن وفق مسارات رسمتها أيضًا (كورونا)؛ فاستطاع الجميع بتكاتف الجميع أن يعود كل شيء لطبيعته ولو كانت وفق الطبعة (الكورونية). فالوزراء والمديرون وكبار المسؤولين وجميع الموظفين من المدنيين والعسكريين، وكذلك التجار والصناع والزراع وغيرهم.. الكل عاد وفق الاحترازات المشددة، فسد مكانه في العمل، وأدى نتاجه للمجتمع؛ فأرهق العائد (كورونا) بالتزامه ومحافظته بعد أن أرهقته كورونا، وحظرت تحركاته زمنًا طويلاً.
كل الوظائف والأعمال استطاع الإنسان أن يتكيف معها في ظل هذه الجائحة إلا وظيفة واحدة، ما زالت عصية على التكيّف؛ لأنها ليست كالوظائف والأعمال الأخرى التي تقبل البدائل، وتساير المتغيرات، وتقبل بالتغيرات، وليست تقبل التأجيل ولا التسويف ولا التأخير! ولأنها وظيفة تتعدى مجرد الصبغة الوظيفية الحكومية؛ لتسمو بالاقتداء شرفًا بصاحب الرسالة المحمدية - عليه صلوات الله وسلامه -.
لذا فقد بذل الآباء والأمهات وأولياء الأمور قصارى جهدهم، وعطلوا جزءًا كبيرًا من أعمالهم؛ علّهم يغطون عمل صاحب هذه الوظيفة، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يسدوا مكان هذا الموظف بالكامل كما لو كان موجودًا.
يكفي شاهدًا قول أحد أولياء الأمور من الكتّاب الكبار في مقالة له بعنوان: «يوم دراسي كامل في البيت»: «أعترف بأن عبء الإشراف على تعليم أولادي عن بُعد يكاد يفوق طاقتي».
الوزير القوي الأمين!
استطاع وزير التعليم النشيط القوي الأمين أن يواجه كورونا بكل حزم وحكمة واقتدار؛ فقاد الوزارة إلى بر الأمان؛ فها هي عجلة التعليم لم تتوقف يومًا واحدًا، وإن رغمت كورونا.
وقد أشاد معالي الوزير بالمعلمين والمعلمات، وبعملهم وتفانيهم وإخلاصهم وتضحياتهم.. وما ذلك إلا لأهمية العمل الذي يقومون به، والرسالة التي يؤدونها؛ فلا يخلو أي بيت من أثر للمعلم أو المعلمة. وفي زمن (كورونا) غابت أجسادهم لكن بقيت أصواتهم في بيوت طلابهم؛ لتصدح بنشر العلم، وتغرد كل يوم بالتعليم. شكرًا لا تكفيهم، لا توفيهم حقهم، لكنهم كرماء نبلاء، وللصبر والمصابرة والتضحية والإيثار أصبحوا أكبر عنوان، ولا ينتظرون جزاءً ولا شكورًا.
قست علينا كورونا كثيرًا، لكنها ذكّرتنا بمكانة المعلم، وبشرف رسالته، وبضياء شمسه التي تشرق علينا كل صباح؛ فكسفت بها كورونا، وما زالت كاسفة مهما حاولت مصابيح الوزارة إعادة النور والضياء عبر منصة مدرستي الرائعة البديعة، وعبر قنوات عين التلفزيونية التعليمية في عمل جبار جدًّا لمعالي الوزير الهُمام.
شكرًا معالي الوزير وقائد جميع المعلمين؛ فقد قدت المرحلة الكورونية العصيبة بكل اقتدار مستلهمًا وملتزمًا توجيهات ولاة الأمر - حفظهم الله - وحرصهم الكبير على أن تشرق شمس التعليم في كل بيت وعلى كل أرض في وطننا الكبير (المملكة العربية السعودية) - حفظها الله وحرسها وأدامها منارة العلم والعلماء -.
شكرًا لك أيها المعلم..
ستبقى أسطورة الوظائف، وعملاق الوفاء، وأيقونة التضحية والإيثار.. تحملتنا بالقول كثيرًا، وكأنك تقول: قولوا ما شئتم، وستذكرون ما أقول لكم، وأفوّض أمري إلى الله.
فجاءت كورونا بأمر الله فأيقظتهم من غفلتهم، وانتصر المعلم دون أن يخوض غمار أي حرب، ودون أن يتكلف أي رد، وتمنى الناس أن يعود أولادهم للمدرسة، وأن يمارس المعلم وظيفته، ولو اصطفوا قائمين، وللمعلم مبجلين؛ ليزاح هذا الهمّ الكبير في التعليم والتربية والتهذيب.
وحينها سيدرك الجميع صدق القائل:
قم للمعلم وفِّه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
شكرًا مرة أخرى أيها المعلم، يا شمس التعليم المشرقة صباح مساء.. هل رأيتم شمسًا تشرق في المساء؟ إنها شمس معلم الأجيال.
** **
- أستاذ القانون الدولي بالمعهد العالي للقضاء