سهوب بغدادي
فيما شهد العالم خلال الفترة الماضية انطلاق المناظرات الرئاسية الأولى في الولايات المتحدة الأميركية، برز المرشح جو بايدن 77 عاماً، نظراً لعدة معطيات مرجحة، فبايدن محظوظ لأن خصمه معروف وأجريت عليه الملاحظة المكثفة، أي أن مواطن الضعف الكامنة لدى دونالد ترمب قد تكون أكثر وضوحاً وتجلياً من تلك الخاصة ببايدن، باعتبار قلة المحتوى المرئي للأخير خلال السنوات القليلة الماضية.
هدف بايدن من المناظرة الأولى هو إلقاء حجر أساس وصورة نمطية ترتبط في أذهان المواطنين الأميركيين والعالم، وكما هي الحال في جميع المناظرات التي خاضها ترمب لمسنا نهجه المتسم بالهيمنة المتكاملة على أكثر من صعيد، من أبرزها الصعيد اللغوي باستخدامه المفردات الرنانة ذات الوقع القوي والمتسق مع الموضوع وخلفية الخصم وتاريخ وثقافة الولاية التي أقيمت فيها المناظرة. علاوة على توظيفه للغويات النفسية أي ارتباط الكلمات بالحالة السيكولوجية وتأثيرها عليها وعلى المتلقي، على سبيل المثال لا الحصر أسلوب تكرار الكلمة أو الجملة أو المعلومة ثلاث مرات، حيث أظهرت الدراسات أن تكرار المعلومة وإن كانت غير منطقية أو حقيقية احتمالاً يساهم في تأصيلها في العقل اللاواعي وهكذا. كما يتضح ضلوعه في لغة الجسد وفرض نفسه على الخصم والجمهور ومدير النقاش بل استثارتهم وحملهم إلى منطقة اللا راحة، ليبقى الخصم في حالة تأهب وتيقظ تامتين.
إن شخصية ترمب الرئيس تستقي منهجية الفوز والربح والهيمنة من أساسيات عمله الأساس في عالم المال والأعمال، حيث تكلف الغلطة الشخص ملايين الدولارات، لذا تبرز مثل شخصية ترمب والشخصيات القوية المماثلة مع الاختلافات الحاصلة لديهم في نطاقات عديدة.
وتساهم هذه الشخصية في كثير من الأحيان في حصول الفرد على ما يريد، إلا أن لها سلبيات قد توظف ضده في حال تم استغلالها بالشكل الصحيح وفي الموطن الحق. كما فعل بايدن بترمب في المناظرة. بكل بساطة ما قام به جو بايدن هو استخدام منهجية دونالد ترمب ذات النسخة (المطورة والأكثر حداثة)، بمعنى أنه حفظ الدرس بشكل ممتاز، وقام بالبحث في تفاصيل ترمب ووظف السبل كافة وفريق عمله في تفكيك خصمه، ولا أقصد تفكيك سيرته المهنية أو هفواته خلال أعماله، إنما عمل على اقتحام روحه الكامنة ومنابع قوته الداخلية التي يستقي منها ثباته الخارجي والكاريزما الخاصة به.
فيما تعمد بايدن إثارة حفيظة ترمب عبر ذكره كلمة -إن شاء الله- وإن تعددت المعاني والتفسيرات لها، فمن خلال التحليل اللغوي للسياق الذي ذكرت فيه، والذي يتمحور حول دفع ترمب للضرائب خلال سنتين محددتين 2016 و2017، فقال ترمب «دفعت الملايين» فرد عليه خصمه بسرعة: «متى؟ إن شاء الله؟» وفي هذه الكلمة ما يطلق عليه في علم اللغويات (Double entendre) أي ازدواجية أو ثنائية المعنى والمفهوم (التورية). حقاً، قد يكون ما يقصده بايدن استخدام المفهوم السلبي للكلمة لدى العرب والمسلمين ألا وهو بعد أو تأجيل الفعل إلا أن الكلمة لها أبعاد نفسية شخصية لدى خصمه ترمب، فلكم أن تتصوروا المشهد الداخلي لعقل ترمب عند سماعه الكلمة وارتباطها بعامي 2016 و2017 فما الذي سيخطر على باله؟ أمور كثيرة حتماً!
أنا أرى أن الكلمة خرجت عن مدلولاتها اللغوية إلى تلك النفسية كأحد ألاعيب وسياسات الربح في المجابهات استناداً على ما جاء في كتاب فن الحرب لسن تزو الأطروحة العسكرية الشهيرة، فضلاً عن كتاب 33 استراتيجية للحرب للكاتب روبرت جرين الذي يعد امتداداً من روح أطروحة سن تزو العسكرية، في هذا السياق، عمد بايدن لاستراتيجية إرباك الخصم من الداخل، مما سيكسبه المزيد من الهنيهات للضرب في مواطن أخرى. لا نستطيع إنكار أن ترمب قام بتخصيص زيارته الأولى خارج نطاق الولايات المتحدة الأميركية لزيارة المملكة العربية السعودية، حيث كانت هذه الخطوة صادمة للعالم الغربي في وقتها، أيضاً توقيع الشراكات الضخمة بين الولايات المتحدة والمملكة، فما كان يريد ذكره ترمب وقتها التطرق لمواطن القوة في عمله والمكاسب التي حققها لبلاده خلال سنوات رئاسته، وتباعاً فإن لأي فعل رد فعل سلبي في الحياة بشكل عام، فلن يخلق التأييد التام لأي شخص أو قرار. في حين حاول ترمب التخلص من السؤال هذا بغية الابتعاد عن التبعات المحتملة من قضية خاشقجي والعلاقة الوطيدة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي التي يتمتع بها البلدان.
ونتيجة للهجمة القوية عليه فإن معظم استطلاعات الرأي المعنية بالمناظرة في الأوساط الأميركية أشارت إلى تغلب بايدن على ترمب، وبطبيعة الحال قام الأول بتشكيل صورة ذهنية غير متوقعة عنه وعن حزبه، فقام بتوظيف مبدأ البروبانجدا ومفهوم أي دعاية وإن كانت سلبية فهي دعاية جيدة. واحتمالا مغازلة الشعوب العربية بلغتهم من خلال استخدام الكلمة التي أثارت البلبلة وهو على أتم علم ودراية ودراسة لذلك. ففيها جذب اهتمام الجمهور المعني بطريقة مقننة لإيصال رسالة معينة. عندما تعهد وقف التدخل في حرب اليمن عن طريق وقف دعم بلاده للسعودية والتوقف عن تسليحها. وذلك لا يعني أنه سيقوم بذلك حرفياً في حال فوزه، ولكن للضرورة أحكاماً في بعض الأحيان. إضافة إلى أن هذه المناظرة لا تعني تزعزم ثبات ترمب لأنه يقف على أصل متين ويأتي من خلفية مختلفة غير سياسية، بالإضافة إلى الخلفية في مجال السياسة التي اكتسبها بطابع متفرد خلال السنوات الأخيرة، وهذا الأمر يفتقده بايدن السياسي البحت، وقد نشهد قلباً تاماً للموازين خلال المناظرات القادمة. سننتظر ونرى.