م. بدر بن ناصر الحمدان
ماذا لو قرَّرت إحدى بلديات المُدن أن تُخصص موقعاً في إحدى ضواحي المدينة لتبني فيه «حياً رومانسياً» بخصائص معمارية وعمرانية مختلفة، ونظام حياة خاص، وبضوابط واشتراطات عامة مستقلة تمنح هذا المكان خصوصية مكانية وتجعل منه وجهة فريدة للراغبين في قضاء أوقات مع شركاء حياتهم - بمختلف صورها- بعيداً عن ضجيج المدن وأسلوب العيش المعُقد داخلها، بحيث تخضع عضوية الانضمام لهذا الحي لمعايير مُشدّدة تضمن أن كل من بداخله يمتلك ثقافة حياة متجانسة مع وظائف المكان وأخلاقياته وقيمه وسلوكياته التي يفترض أن تكون على درجة عالية من التحضّر.
فكرة «الحيّ الرومانسي» أو «الرومانتيكي» هنا، تعتمد على بناء حيز مكاني جديد بمفهوم «العمران الذاتي المتكامل»، وظيفته الرئيسة هي تحقيق عوامل الرومانسية المكانية في كل جزء من نطاقاته، من خلال مبدأ «المكان يتبع الوظيفة»، ويقدِّم تجربة لأسلوب حياة مبتكرة وغير تقليدية، كما أنه يمكن أن يتحوّل إلى وجهة سياحية ومقصد لقضاء شهر العسل، ومناسبات ذكرى الزواج، وإحياءً لمواسم الذكريات على أي وجه كانت، باختصار حي مفعم بالحياة ويهتم بأدق التفاصيل.
هذا النوع من الاستثمار الحضري يتطلب مستوى احترافياً عالياً لنموذج التشغيل والإدارة والخدمات والرقابة والتحكم التي يفترض أن تقوم بها بيوت خبرة وشركات متخصصة في هذا المجال، والمرجّح أنها ثقافة ستجتاح عالم المدن في المستقبل القريب وستكون عنصراً رئيساً في تنافسيتها وجودة حياتها بالمقارنة مع التغيّر الذي طرأ على هرم احتياجات السكان وأولوياتهم، فسكان المدن لم يعد سقف مطالبهم محصوراً في خدمات أساسية فحسب، بل باتت «صناعة المكان» من أجل الأوقات الباذخة -بمفهومها المعنوي - على رأس قائمة احتياجاتهم وأولوياتهم.
نقل الأماكن الرومانسية المبعثرة في أروقة المدينة وتركيزها في مكان واحد «ليس متاحاً للجميع» ضمن منظومة عمرانية متجانسة (فنادق، نُزل، سينما، مطاعم، مقاهٍ، أماكن مفتوحة، مسارح، منتجعات، مراكز ثقافية، متاجر ...)، قد يبدو في نظر البعض قراراً جريئاً أكثر مما يجب، وربما يحمّله البعض ما لا يحتمل، نهاية بتحويله إلى كونه مؤامرة على العادات والتقاليد القائمة، حتماً سيحدث ذلك لأن مجتمعنا لا يزال يحتضن «خلايا مُتناقضة» تقول ما لا تفعل، وأخرى لديها إصرار عجيب على وأد كل ما يبعث الروح في المكان عطفاً على مبررات جُلّها نابع من تركيبة مُعقّدة من الأفكار والدوافع الأيديولوجية المبنية على مجموعة من الخرافات المجتمعية.
بقي أن أقول لكم إن «الرومانسية المكانية» لم تعد بالمفهوم الاصطلاحي الشائع كتعبير عن الحب والعاطفة والغرام بقدر ما هي مذهبٌ أدبي وفلسفة فكرية مرتبطة بالمكان وتهتم بالنفس الإنسانية، نحن نتحدث عن أناس عاديين باحثين عن مكان يليق باحتضان مشاعرهم وأحاسيسهم بعيداً عن تلك الغابات الإسمنتية التي تُسمى «مُدن».
لا تضيعوا الوقت في مقاومة الحياة.