عبدالرحمن الحبيب
هل ثراء وفقر الدول يرجع لأسباب اقتصادية بحتة أم لأسباب ثقافية أم مزيج بينهما مع عوامل أخرى من صدف تاريخية وظروف بيئية؟ يقصد بالثقافة هنا معتقدات المجتمع وقيمه ومعاييره وخياراته حيث كان الاقتصاديون الأوائل مهووسين بالثقافة كسبب لثراء أو فقر الأمم، ففي عام 1817، كتب المفكر الاقتصادي توماس مالتوس، رسالة إلى ديفيد ريكاردو، أن «أسباب ثراء وفقر الأمم (كانت) الهدف الأكبر لجميع الاستفسارات في الاقتصاد السياسي». مجلة إيكونوميست ترى أن الاقتصاديين عادوا من جديد إلى الثقافة لتفسير أسباب الثروة والفقر بعد مراجعة وتطوير أفكار الاقتصاديين الأوائل، حسب بحث للمجلة، هنا خلاصته.
في عام 1500، كانت ثروة أغنى دولة بالعالم ضعف ثروة أفقر دولة؛ بحلول عام 1750 كانت النسبة خمسة إلى واحد. ليست مصادفة أن أشهر كتاب بالاقتصاد «طبيعة وأسباب ثروة الأمم» (عام 1776)، حاول فيه آدم سميث (مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي) استكشاف الطرق التي تعمل بها الثقافة لمساعدة أو عرقلة الرأسمالية، موضحاً بعض المعايير لازدهار اقتصادات السوق. بعد بضعة عقود، طرح كارل ماركس بأن ثقافة «الاستبداد الشرقي» حالت دون ظهور الرأسمالية في آسيا. تلاه ماكس فيبر «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، عام 1905، زاعماً أن البروتستانت، ولا سيما الكالفينيون، قادوا ظهور الرأسمالية بسبب أخلاقيات العمل القوية.
هذه التفسيرات الثقافية تراجعت خلال منتصف القرن العشرين، بل أصبحت مدعاة لتهكم بعض كبار المفكرين الاقتصاديين. لكن الصعود السريع للاقتصاد الياباني بالخمسينيات، ثم «النمور» الآسيوية لاحقاً، أدى إلى القضاء على الفكرة الماركسية - الفيبرية القائلة بأن الثقافة الغربية وحدها كانت مواتية للرأسمالية والتصنيع. كما أدى التوافر المتزايد للبيانات مثل تراكم رأس المال والأجور والتوظيف
وإجراء التحليل الإحصائي للتوقعات اعتماداً على قياسات واضحة بدلاً من مسائل يصعب قياسها مثل الأخلاق، لتوجيه اهتمام الاقتصاديين إلى مكان آخر.
لكن منذ منتصف الثمانينات تطورت طرق القياس مثل مسح القيم العالمية والمسح الاجتماعي العام وسهلت القياس الكمي للسمات الثقافية وربطها بالنتائج الاقتصادية، وبدأ الانتباه لأهمية الثقافة وعدم حصر التحليل على التفكير الاقتصادي البحت. من المحاولات التأسيسية ما قام به روبرت بوتنام (1993) لتفسير سبب كون شمال إيطاليا أغنى من جنوبها تحت مصطلح «رأس المال الاجتماعي» الشامل: الناس في الجنوب موالين بشدة لأسرهم، وأكثر ارتيابًا بالغرباء مقارنة بالشماليين الذين زادوا على الجنوبيين في قراءة الصحف والمشاركة بالجمعيات الرياضية والثقافية. ذلك أسهم في تحسين الحكومة المحلية وكفاءة المعاملات الاقتصادية، التي أنتجت بدورها ثروة أكبر.
كما وجدت دراسة لويجي جويسو وآخرون (2004) في إيطاليا، أنه بمناطق رأس المال الاجتماعي المرتفع، تستثمر الأسر مبالغ أقل في النقد وأكثر في الأسهم، وتقلل استخدام الائتمان غير الرسمي. ففي المناطق التي لا يثق فيها الناس بمن هم خارج عائلاتهم، قد يكون من الصعب تشكيل مؤسسات أعمال كبيرة يمكنها الاستفادة من زيادة الحجم وتبني التقنيات الجديدة؛ فمثلاُ، متوسط الأعمال في لومباردي (منطقة شمالية غنية) 13 موظفًا، مقارنة بخمسة في كالابريا (منطقة جنوبية فقيرة).
في كتابه «ثقافة النمو» عام 2016، وضع جويل موكير «مبدأ التنافس» على أنه السبب وراء تحول بعض البلدان إلى صناعية بينما لم يتحول البعض الآخر. مؤسسات (مثل الجمعية الملكية بلندن، تأسست عام 1660) كانت منتديات للنقاش وتبادل الأفكار والاكتشافات.. مع مرور الوقت، تحول هدف البحث العلمي بأوروبا الغربية من «التراكم الطائش للحقائق التجريبية» إلى الاكتشافات التي يمكن استخدامها في العالم الحقيقي مرسي الأساس للاستثنائية الاقتصادية الأوروبية حسب موكير.
تشير بعض الأبحاث إلى أن السمات الثقافية هي نتاج تغييرات حدثت منذ مئات السنين، وظلت لها بقايا إلى يومنا هذا (ألبرتو أليسينا وآخرون، 2013)، لكن لماذا أحياناً يكون للدول ثقافات متشابهة ونتائج اقتصادية مختلفة جدًا. يرى بعض الاقتصاديين أن ذلك قد يرجع للصدف التاريخية والتوقيت المناسب لأحداث معينة واستغلال الفرص. خذ حالة جواتيمالا وكوستاريكا؛ متشابهتان تاريخياً وجغرافياً وثقافياً، وواجهتا نفس الفرص الاقتصادية في القرن التاسع عشر، ولكن اليوم متوسط ثراء كوستاريكا أكثر من ضعف ثراء المواطن الغواتيمالي العادي. السبب يعود إلى القهوة؛ ففي كوستاريكا أدى تطوير مزارع البن للسوق الأوروبية إلى علاقة أكثر توازناً بين الدولة والمجتمع، ربما لأن البلاد لديها المزيد من الأراضي الهامشية وعدد أكبر من أصحاب الحيازات الصغيرة، أما في غواتيمالا، فقد أدى ذلك إلى ظهور حكومة جشعة، حسب دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون.
لذلك بالإضافة إلى الثقافة، يبحث اقتصاديون في «المؤسسات»، وغالبًا ما يُنظر إليها على أنها تعني النظم واللوائح القانونية. هنا، يرى بعض الاقتصاديين الثقافيين بأن التركيز على المؤسسات يثبت وجهة نظرهم: فالمؤسسات هي نتاج المعايير والقيم والخيارات. كما وجدت دراسات أخرى لأسيموغلو وروبنسون، عنصرًا إضافيًا للعشوائية، فالبلدان الأكثر عرضة للإصابة بأمراض معينة تنتج نظماً سياسية واقتصادية مختلفة.
هل التفسير الاقتصادي البحت أم الاقتصادي الثقافي أقرب إلى الإجابة على السؤال التأسيسي؟ تبدو المسألة عصية على التبسيط، فمن المرجح أن بعض البلدان غنية وبعضها الآخر فقير بسبب مزيج فوضوي من الحوافز الاقتصادية، والثقافية، والمؤسسات والفرص، لتبقى الإجابة غير واضحة، لكن الأمر لم ينته بعد..