د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تهادى بين أصابعي كتاب الدكتور عبدالواحد الحُميْد (سنوات الجوف.. ذكريات جيل) الذي نشرته بوابة التنوير الوطنية العريقة بالجوف (مركز السديري الثقافي). والكتاب اعتلى رواق طبعتين فاخرتين، الأولى عام 2017 والثانية 2020. ولقد راق لي الكتاب محتوى ونتيجة وفكرًا وأسلوبًا وسردًا. ولأن الذاكرة التصويرية دائمًا ما تكون حاضرة! فقد انطبعتْ حزمة من صفحاته بالذاكرة فجذبتني للغوص في التفاصيل، فشرعتُ في قراءة تحليلية، فاستقرتْ في ذهني جدارته بأن يكون في علياء الوثائق التاريخية لمنطقة الجوف؛ فالكتاب بدايته تخطيط للصعود المجتمعي المستدام، ونهايته ختم توثيقي لحكايات الجد والبحث والسؤال والعمل. وفي الكتاب رحلات ومحطات كانت غير مقررة، ومن ثم أصبحتْ ممنهجة إلى عالم موجود ما كان اكتشافه شغفًا لأحد في يوم ما!؟ فكأن الكاتب حمل أمانة توثيق تلك المرحلة، يدفعه الشغف الذي كانت تُستَقبلُ به حكايات السابقين فوق (أراضيهم الوطنية التي كانت تسمى آنذاك بالنائية)؛ حيث توارى النقد في الكتاب حين المرور لتدوين تلك الحقبة، وانسكب الود العميق الممتد عند الكاتب. ويبدو أن ذكاء الكاتب تدخّل فشكّل نمطا من الثنائية الحضارية المنتجة؛ فكلما توقفنا مع الكاتب في طرح جديد حضر ليبلغنا احتفاء آخر عن مجتمعه الجوفي الأثير، ثم يعود لموضوعه الأساس. وهذه خصيصة لافتة جميلة، أبدع الكاتب في بثّها. وبدا لي تأثير البث الإعلامي من وسائطه المحدودة آنذاك واضحًا في وجيب المجتمع الجوفي الذي كان مختلفًا حيث يستقي من منصات الإعلام الخليجية والعربية ذات الجوار والقرب الجغرافي؛ وغدتْ تلك الأخبار الإعلامية هي من يُرتب أزمنة الحضور، ويحقق التواصل المجتمعي للحديث حولها! وشجون أخرى جديرة بالتوقف في عمق مجتمع (سكاكا وحي الشعيب) عندما تقاطر عليهما وصف كاتب دقيق عاش الأرض والعَرْض.
ومن اللافت أن الكاتب، وهو ذلكم الواعي الحكيم، يلاحق الوعي في كتابه، ويرصد شؤونه وشجونه، ويمسك بشواهده وشهوده، ويبسطها بسطًا احتفاء بمجتمعه الجوفي. ودائمًا ما يقف الكاتب عند صور الذات المحلية مقابل الآخر الوافد الذي أتيحتْ له مشاركة المواطن في الإعمار والنهضة حتى يبرز خصائص الاندماج ووسائل تحقيقه، والتوازن في الأخذ والعطاء، واكتساب المعرفة الجديدة مما كان قد تولد في مجتمع الجوف وسواه من قطاعات بلادنا؛ فكانت شهادات الكاتب ممهورة، تنفي عن ذلك الجيل العنصرية؛ وتقرر أن الاندماج في النسيج صبغة لهم! ولقد وُفّقَ الكاتب في تصوير مرحلة الطفولة واليفاع في نموذج مسيرة طفولية صادقة، ووسم لمراهقة بريئة، وتذكار مبكر لاستقبال فوران الشباب وزهوه! والكتاب في عمومه شاهد على نفوس الناس في ذلك الزمان، وبصمة أكيدة على مجتمعاتهم؛ فالطرح في الكتاب خطوة للإسهام في مجال تسجيل السيرة؛ وحديث للذكريات بمقتضيات مختلفة نحو دفع عجلة كل ذي لب نحو إتمامها، وما تضمنه الكتاب من محطات تصويرية، صنعت من آمال الناس فنًّا خالدًا، شكّل الكاتب بتحليلاته ووقفاته دروبًا للوقوف على تفاصيل إبداع العقول آنذاك. ولقد نجح الدكتور عبدالواحد في الغوص في أعماق إنسان ذلك الجيل، وفصل وعلل في الحديث عن تلك المقارنات التي كانت تتوارد على ألسنة الناس عندما ارتفع منسوب العيش في البيئات السعودية، وكانت لأحاديث الشارع الجوفي طقوس تُتبع؛ فهم لا يتحدثون عن عجائب التحضر في عهدهم إلا وهم في اصطفاف منظم سعيد حول الشبات، وهي نار توقد يتحلّق حولها أهل الحي وضيوفهم. ومن اللافت أن الكاتب استطاع القبض على كثير من صور ذلك الجيل مستلة من الصورة الكلية المنبثة في سائر المدن على أطراف بلادنا؛ فعلمنا أنهم «كانوا طاقات تتفجر بالطموحات، وتصدم بمحدودية الأفق» المعد لاستثمارها. ولقد تعامل الكاتب مع أفق واسع من جميع شرائح المجتمع، وحقق من خلال ذلك رسم صور المشاركة التي تمت هناك. وفي محطة متوهجة من الذكريات توجهت بوصلة الكاتب إلى حكايا أميرها المحب عبدالرحمن بن أحمد السديري الذي استوطنها أميرًا بتعيين من قِبل الملك عبدالعزيز - رحمهما الله - لثمانٍ وأربعين سنة مورقة، رصد الكاتب قليلاً من كثيرها الوافر. والإطار الجميل الذي أكّدهُ الكاتب حين الحديث عن الأمير صنعته صفات الناس التي استفاض الكاتب في ذكرها والإحاطة بتأثيرها على نجاحات منظومة العمل المؤسي والمشاريع التنموية التي قدحها الأمير عبدالرحمن السديري فأضاءت ما حولها.
ويبقى كتاب (سنوات الجوف.. ذكريات جيل) وثيقة تاريخية واجتماعية، ومرآة صادقة للتحولات التي شهدتها الأجيال السابقة في الجوف. ولقد أجاد الكاتب الطرح الودود الهادئ، وارتقى في سلالم الذكريات بشمولية وفيض. ولا ريب؛ فهو صاحب دار، وزائر محب، التحمت الوشائج بين مدينته ونفسه وجيله! والكتاب رِكازٌ يستحق القراءة والبحث!