خالد أحمد عثمان
أوضحنا في المقال السابق أن الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم الصادرة من هيئة الأمم المتحدة عام 1989 قد حظرت الارتزاق وجرمت تجنيد المرتزقة وتدريبهم وتمويلهم واستخدامهم. ثم سلطنا بعض الضوء على المسؤولية القانونية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس ما يسمى حكومة (الوفاق الوطني) الليبية برئاسة فايز السراج لمخالفتهم أحكام هذه الاتفاقية واستخدامهم المرتزقة وكذلك أشرنا إلى المسؤولية الدولية للدولة التركية عن تجنيد المرتزقة وإرسالهم للاشتراك في الصراع الدائر في ليبيا.
واستكمالاً للمقال السابق، نتناول هنا بإيجاز مسألة الاختصاص القضائي في قضايا المرتزقة في ضوء أحكام الاتفاقية المذكورة آنفاً.
والحديث عن هذا الموضوع يتفرع إلى فرعين؛ الأول يتعلق بإجراءات التحقيق مع المرتزقة، والفرع الثاني يتعلق بمحاكمتهم.
وقبل الحديث عن إجراءات التحقيق والمحاكمة، تجدر الإشارة إلى أنه نظراً لخطورة جريمة الارتزاق واستخدام وتمويل المرتزقة فإن المادة السادسة من الاتفاقية أوجبت أن ((تتعاون الدول الأطراف على منع الجرائم المنصوص عليها في هذه الاتفاقية، ولا سيما بالقيام بما يلي:
(أ) اتخاذ جميع التدابير الممكنة عملياً، كل في إقليمها، لمنع التحضير لارتكاب تلك الجرائم داخل أقاليمها أو خارجها، بما في ذلك حظر الأنشطة غير المشروعة التي يمارسها الأشخاص والجماعات والمنظمات للتشجيع على ارتكاب هذه الجرائم أو التحريض على ارتكابها أو تنظيمها أو الاشتراك في ارتكابها.
(ب) تنسيق اتخاذ التدابير الإدارية وغيرها من التدابير، حسب الاقتضاء، لمنع ارتكاب هذه الجرائم).
ولم تتوقف الاتفاقية عن هذا الحد بل اعتبرت الارتزاق تجنيداً وتدريباً وتمويلاً واستخداماً من الجرائم التي تستوجب تسليم المجرمين في حالة عدم وجود معاهدة تسليم بن الدول، واعتبرت الجريمة وقعت على أراضي الدولة التي قبض على المتهم فيها حيث نصت المادة (15) من الاتفاقية:
1 - تعتبر الجرائم المنصوص عليها في المواد (2)، (3)، (4) من هذه الاتفاقية في عداد الجرائم التي تستدعي تسليم المجرمين في أية معاهدة لتسليم المجرمين نافذة بين الدول الأطراف. وتتعهد الدول الأطراف بإدراج تلك الجرائم بوصفها جرائم تستدعي تسليم المجرمين في كل معاهدة لتسليم المجرمين تعقد فيما بينها.
2 - إذا تلقت دولة طرف، تجعل تسليم المجرمين رهناً بوجود معاهدة، طلب تسليم من دولة طرف أخرى لا ترتبط معها بمعاهدة لتسليم المجرمين، جاز لها، إذا شاءت، أن تعتبر هذه الاتفاقية الأساس القانوني للتسليم فيما يتعلق بهذه الجرائم. وتخضع عملية تسليم المجرمين للشروط الأخرى التي يقضي بها قانون الدولة التي يُقدَم إليها الطلب.
3 - على الدول الأطراف التي لا تجعل تسليم المجرمين رهناً بوجود معاهدة أن تعتبر هذه الجرائم من الجرائم التي تستدعي تسليم المجرمين فيما بينها، مع مراعاة الشروط التي يقضي بها قانون الدولة التي يُقدّم إليها الطلب.
4 - تُعامل الجرائم، لغرض تسليم المجرمين بين الدول الأطراف، وكأنها قد ارتكبت لا في المكان الذي وقعت فيه فحسب، بل أيضاً في أقاليم الدول المطلوب منها إقامة ولايتها القضائية وفقاً للمادة (9) من هذه الاتفاقية.
وفيما يتعلق بإجراءات التحقيق مع المتهمين بارتكاب جريمة الارتزاق وما نجم عنها من جرائم أخرى، فقد قررت المادة الثامنة من الاتفاقية ((بأن على كل دولة طرف، لديها سبب يحملها على الاعتقاد بأن جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذه الاتفاقية قد ارتكبت أو ترتكب أو سترتكب، أن تبلغ، وفقاً لقانونها الوطني، المعلومات ذات الصلة حال علمها بها إلى الدول الأطراف المعنية، وذلك إما مباشرة أو عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة)).
كما قررت المادة (10) ما يلي:
1 - تقوم أي دولة طرف يوجد في إقليمها الشخص المنسوب إليه ارتكاب الجريمة، لدى اقتناعها بأن الظروف تبرر ذلك، بحبسه وفقاً لقوانينها أو باتخاذ تدابير أخرى لضمان وجوده الفترة اللازمة لإتاحة اتخاذ أي إجراءات جنائية أو إجراءات تسليم وتُجري هذه الدولة الطرف فوراً تحقيقاً أولياً في الوقائع.
2 - عندما تقوم أي دولة طرف، عملاً بهذه المادة، بحبس أحد الأشخاص أو باتخاذ التدابير الأخرى المشار إليها في الفقرة (1) من هذه المادة، عليها أن تخطر بذلك دون تأخير، سواء مباشرة أو بواسطة الأمين العام للأمم المتحدة، ما يلي:
(أ) الدولة الطرف التي ارتُكبت فيها الجريمة.
(ب) الدولة الطرف التي ارتُكبت الجريمة ضدها أو شرع فيها ضدها.
(ج) الدولة الطرف التي يكون الشخص الطبيعي أو الاعتباري الذي ارتكبت الجريمة ضده أو شرع فيها ضده من مواطنيها.
(د) الدولة الطرف التي يكون الشخص المنسوب إليه ارتكاب الجريمة من مواطنيها، أو يكون محل إقامته المعتاد في إقليمها إن كان عديم الجنسية.
(هـ) أي دولة طرف معنية أخرى ترى من المناسب إخطارها.
3 - يحق لكل شخص تتخذ بشأنه التدابير المشار إليها في الفقرة (1) من هذه المادة:
(أ) أن يتصل، دون تأخير، بأقرب ممثل مناسب من ممثلي الدولة التي يكون من مواطنيها أو التي لها بأية صورة أخرى الحق في حماية حقوقه، أو، إذا كان شخصاً عديم الجنسية، الدولة التي يكون محل إقامته المعتاد في إقليمها.
(ب) أن يزوره ممثل لتلك الدولة.
4 - لا تخل أحكام الفقرة (3) من هذه المادة بحق أية دولة طرف، لها حق الولاية القضائية وفقاً للفقرة (1-ب) من المادة (9)، في أن تدعو لجنة الصليب الأحمر الدولية إلى الاتصال بالشخص المنسوب إليه ارتكاب الجريمة وإلى زيارته.
5- تبادر الدولة التي تجري التحقيق الأولى المتوخي في الفقرة (1) من هذه المادة، بإبلاغ نتائج تحقيقها للدول المشار إليها في الفقرة (2) من هذه المادة، وتبين ما إذا كانت تعتزم ممارسة ولايتها القضائية.
ولما كانت القاعدة المستقرة في القانون الدولي أن المرتزق في حالة القبض عليه لا يتمتع بوضع أسير الحرب وتعد أفعاله مجرمة وتستوجب المساءلة الجنائية إلا أن ذلك لا يحرمه من حقه في محاكمة عادلة ومعاملته معاملة إنسانية تحفظ له كرامته الشخصية، ولذلك أوجبت المادة الحادية عشرة من الاتفاقية معاملة المتهم معاملة عادلة في جميع مراحل الإجراءات حيث نصت بأن تُكفل لكل شخص تتخذ بشأنه إجراءات فيما يتعلق بأي من الجرائم المنصوص عليها في هذه الاتفاقية، المعاملة العادلة في جميع مراحل تلك الاجراءات، وكذلك جميع الحقوق والضمانات المنصوص عليها في قانون الدولة المعنية. وينبغي مراعاة قواعد القانون الدولي المنطبقة.
وألزمت المادة الثالثة عشرة الدول على تبادل المساعدة في الإجراءات الجنائية حيث نصت على ما يلي:
1 - تتبادل الدول الأطراف المساعدة إلى أقصى حد فيما يتعلق بالإجراءات الجنائية التي تتخذ بشأن الجرائم المنصوص عليها في هذه الاتفاقية، بما في ذلك تقديم جميع ما بحوزتها من أدلة لازمة لتلك الاجراءات.
ويسري في جميع الحالات قانون الدولة المطلوب مساعدتها.
2 - لا تمس أحكام الفقرة (1) من هذه المادة الالتزامات المنصوص عليها في أية معاهدة أخرى فيما يتعلق بالمساعدة القضائية المتبادلة.
أما بشأن جهة الاختصاص القضائي فقد قررت المادة التاسعة ما يلي:
1- تتخذ كل دولة طرف ما يلزم من تدابير لإقامة ولايتها القضائية على أي من الجرائم المنصوص عليها في هذه الاتفاقية والتي ترتكب:
(أ) في إقليم تلك الدولة أو على متن سفينة أو طائرة مسجلة فيها.
(ب) من قبل أحد رعاياها أو، إذا رأت تلك الدولة ذلك مناسباً، من قبَل اَلأشخاص عديمي الجنسية الذين يكون محل إقامتهم المعتاد فَي إقليمها.
2 - تتخذ كل دولة طرف كذلك ما يلزم من تدابير لإقامة ولايتها القضائية على الجرائم المنصوص عليها في المواد (2) و(3) و(4) من هذه الاتفاقية في حالة وجود الشخص المنسوب إليه ارتكاب الجريمة في إقليمها وعدم قيامها بتسليمه لأي من الدول المذكورة في الفقرة (1) من هذه المادة.
3 - لا تحول هذه الاتفاقية دون ممارسة أية ولاية جنائية وفقاً للقانون الوطني.
ثم قررت المادة الرابعة عشرة بأن تقوم الدولة الطرف التي يُحاكم فيها الشخص المنسوب إليه ارتكاب الجريمة بإبلاغ النتيجة النهائية لإجراءات المحاكمة، وفقاً لقوانينها، إلى الأمين العام للأمم المتحدة، الذي عليه أن يحيل هذه المعلومات إلى الدول الأخرى المعنية.
بعد هذا الاستعراض لأحكام اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بإجراءات التحقيق والمحاكمة في قضايا المرتزقة، يثور التساؤل هل يمكن محاكمة المرتزقة في المنازعات المسلحة أمام المحكمة الجنائية الدولية.
اتفاقية الأمم المتحدة لم تنص على ذلك لأنها قد صدرت قبل إنشاء هذه المحكمة، كما أن النظام الأساسي لهذه المحكمة لم يدرج أعمال الارتزاق وتجنيد المرتزقة وتمويلهم واستخدامهم ضمن الجرائم المنصوص عليها في النظام المذكور. ومع ذلك أميل إلى الرأي القائل انه يمكن اللجوء إلى هذه المحكمة في الحالات التالية:
1 - إذا كانت الجرائم المنسوبة للمتهمين قد ارتكبت على إقليم إحدى الدول الأطراف في النظام الأساسي.
2 - إذا كان المجني عليه ينتمي إلى جنسية إحدى الدول الأطراف في النظام الأساسي لهذه المحكمة، أو أن المنسوب إليه الجريمة ينتمي إلى جنسية إحدى الدول الأطراف في هذا النظام.
3 - إذا قرر مجلس الأمن الدولي بماله من سلطات طبقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بإحالة المتهمين إلى هذه المحكمة لمقاضاتهم عما ارتكبوه من أفعال ترقى إلى جرائم حرب أو عدوان أو جرائم إبادة أو جرائم ضد الإنسانية.
ولما كانت المادة (2) من اتفاقية الأمم المتحدة قد جرمت فعل تجنيد أو استخدام أو تمويل أو تدريب المرتزقة فان هذه الأفعال أصبحت تقع خارج دائرة الشرعية الدولية، وبالتالي تشكل كل منها جريمة دولية خطيرة تندرج ضمن مفهوم جريمة العدوان لأن المادة الثالثة من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (2314) الصادر في 14-02-1974 بشأن تعريف العدوان، قد أوردت صور العمل العدواني ومنها ((قيام دولة ما بإرسال أو إيفاد العصابات أو الجماعات المرتزقة المسلحين. لارتكاب أعمال بالقوة المسلحة ضد دولة أخرى)).
ولاشك أن تجنيد أردوغان المرتزقة وتدريبهم وإرسالهم إلى ليبيا يندرج تحت جريمة العدوان، ولا يمكن تبريرها بأن ذلك تم بموافقة حكومة (الوفاق) التي يرأسها السراج، وبناء على الاتفاقية المبرمة معها. فهذه الحكومة فاقدة الشرعية سواء بمعيار القانون الدستوري حيث لم تنل ثقة وموافقة مجلس النواب أو بمعيار القانون الدولي، حيث انتهت مدة ولايتها بموجب اتفاق الصخيرات ولذلك فان ما أبرمته هذه الحكومة من اتفاقات مع تركيا بما في ذلك اتفاقية التعاون العسكري والأمني تعد باطلة ولا تصلح بأن تكون مسوغاً قانونياً لتجنيد وإرسال المرتزقة إلى ليبيا للاشتراك في الصراع الأهلي الدائر فيها.
ولما كانت أفعال تجنيد المرتزقة أو تدريبهم أو تمويلهم أو استخدامهم تندرج ضمن صور جريمة العدوان، فان المحكمة الجنائية الدولية تختص بموجب نظامها الأساسي بالنظر في هذه الجريمة، إلا أنه يستلزم لانعقاد هذه الاختصاص توافر إحدى الحالات المشار إليها آنفاً.
** **
- محام وكاتب سعودي