أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قال صاحبي (ابن أبي عنبسة)، المزواج المطلاق، بعد أن طلَّق آخر العنقود من حريمه:
- إن المجتمع الغربيَّ- الذي يتغنَّى بمحاسنه بعضُ المنبهرين، ولاسيما حينما يسعون سعيًا أعمى إلى تضخيم مساوئ مجتمعاتهم- هو أكثر المجتمعات في العالم في معدَّلات الطلاق، على الرغم من أن الزواج هناك رباطٌ تأبيديٌّ لا فكاك منه حتى الموت، بحسب مبدئهم الثقافي، الآخذ بالمنسوب إلى (المسيح)، من أن «مَن طلَّق امرأته- إلَّا بسبب الزِّنَى- وتزوَّج بأخرى يزني، والذي يتزوَّج بمطلَّقة يزني!» (متَّى، 19: 9).
- بربرةٌ للتبرير! فأنْ تُطلِّق امرأتك وقد جاءتك بالعيال أنانيَّة، لا ترتكب مثلها حتى بعض الحيوانات. وهي تعني تشريد أكبادك.
- ليس بتبرير، لكني أرى أن هؤلاء لا هُم استطاعوا الأخذ بالمبدأ، الذي ليس الأخذ به في صالح الرجال ولا النساء مطلقًا، ولا هُم أخذوا بالاعتدال في تقنين حقِّ الطلاق عند الضرورة. لأجل هذا نقرأ في «العهد الجديد»: «قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «إِنْ كَانَ هكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ المَرْأَةِ، فَلاَ يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!» فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ الجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هذَا الكَلاَمَ بَل الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم؛ لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، ويُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ، ويُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَن اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ».» (متَّى، 19: 10- 12). غير أن الأمر هنا لا يتعلَّق بالرجل وحده، ليكون خَصيًّا على أيَّة صورة من الصور الثلاث، بل يتعلَّق بالطرَف الآخَر: المرأة، التي قد تتطلَّب الطلاق أيضًا!
- ما دمتَ قد رُزِقت الأولاد، فكن على أيِّ دِين، لكن عليك التضحية من أجلهم! الطلاق جريمة تشريدٍ نفسيٍّ واجتماعيٍّ تُرتكَب في حقِّ الأطفال. فما ينبغي لرجلٍ عاقلٍ، ذي ضميرٍ حيٍّ، أن يطلِّق وقد صار له من زوجه ولد؛ لأن هؤلاء الأبرياء سيصبحون بذلك الطلاق ضحايا حماقته هو وحماقة أمِّهم، بدءًا وانتهاءً. لذا وجب على الوالدين- عقلًا وإنسانيَّة ودِيانة- أن لا يقترفا هذا الإثم، بل أن يُضحِّيا في سبيل أولادهما، مهما كانت الظروف، وأن يَنْذُرا حياتهما في سبيلهم، متحمِّلَين مسؤوليَّة ما ابتدآه هما، وبمحض إرادتهما واختيارهما.
- مثاليَّةٌ جميلة. على أن المجتمع الغربيَّ من أكثر المجتمعات في العالم من حيث تفكُّك الأسرة، وحالات الإجهاض، التي تبلغ في الولايات المتحدة وحدها: 3500 حالة إجهاض يوميًّا. هذا إلى رواج المخدِّرات، والشذوذ الأخلاقي، الذي بات صناعةً غربيَّةً مصدَّرةً إلى العالم، عبر الفضاء والأرض، وبكلِّ الابتكارات العتيقة والعتيدة.
- أجل، هذا هو العالم المثاليُّ الذي يحلم به بعض الناس! لكن ما علاقة هذا بتطليقك «المدام»؟!
- سأدع الحديث في هذا لشاهدةٍ من أهله؛ حتى لا أُتَّهم كالمعتاد بالتجنِّي والذكوريَّة. وهي الصحفيَّة الأميركيَّة (كارلي ميرفي)، المراسلة السابقة لصحيفة «واشنطن بوست»، التي ألَّفت، بعد 11 سبتمبر 2001، كتابها «عاطفة نحو الإسلام»، تقول فيه: «إن التحرُّر الاجتماعيَّ وصل إلى درجاتٍ اشتكى منها الأميركيون أنفسهم؛ فهم يعانون التفكُّك، بعد ارتفاع معدَّلات الطلاق، والمخدِّرات بين المراهقين». (صحيفة «الحياة»، 17 مايو 2008، ص31).
- شهادةٌ لا جديد فيها، سِوى أنها تَرِد مباشرةً من «فم الفَرَس»، كما يُقال. لكن ما علاقة هذا بتطليقك «المدام»؟!
- والرئيس السابق (بيل كلينتون) يتحدَّث، في كتابه «الأمل والتاريخ»، عن «العيب والإثم»، مشيرًا إلى أن (مليون مراهقة) في (الولايات المتحدة الأميركية) تصبح حاملًا (سفاحًا) سنويًّا، وإلى الانحطاط الأخلاقي والفكري التي تروِّج له الأفلام الأميركيَّة. ومِنَّا- في عالمنا المتخلِّف ماديًّا وفكريًّا- فئات ما تزال تتَّخذ النموذج الأميركي مَضرِبَ مَثَلها في الحُريَّة الاجتماعيَّة، ونموذجَها الأعلى وأسوتَها الحسنةَ في ما تسمِّيه العدالة الاجتماعيَّة!
- هذا لا يعني- بالضرورة- تبنِّي دعوة أميركي آخَر، اسمه (غاري نيلر)، ألَّف كتابًا بعنوان «لعنة 1920»، وهو العام الذي نالت فيه المرأة الأميركيَّة حقَّها في التصويت. ونيلر يرفض في رسالة وجهها إلى (السعوديَّة) المطالبة بفتح المجال لمشاركة المرأة السياسيَّة، محذِّرًا من الإصابة بمثل ما أصاب المجتمع الأميركي من دمارٍ قيميٍّ وأخلاقيٍّ، واصفًا الرَّجُل السعوديَّ بأنه «آخر الرجال في العالم»! (صحيفة «الحياة»، 24 مايو 2008، ص6).
- لله درُّه، أنصفَني «ابنُ الذين...»!
- بالتأمُّل في مقولات الرجل يتبيَّن أنه من النوع الذي يذهب تمامًا إلى طَرَفٍ نقيض. وما أهلك الأُمم إلَّا نقائض التطرُّف ات! وهو ما تجاوزتْه المجتمعات منذ أَمَد. بل تخطَّاه التاريخ الإسلاميُّ عبر محطَّاتٍ كثيرة. كما لا يعني (التوزان)، الذي ندعو إليه في هذه القضيَّة، إقرار ما يقع في مجتمعاتنا من ظلم المرأة، ومن استبدادٍ يَستغلُّ الحقَّ للباطل. ونحن أعرف بمجتمعاتنا وما يحدث فيها، حتى إنه ما يكاد ينادي أحد بحقوق المرأة إلا يكون عرضةً لأقذع التُّهم.
- لا تقل لي: إن الطلاق من ظُلمها.. أزعل منك!
- أنت تعرف رأيي! ومن ذلك الظلم، وكمؤشِّرٍ لغويٍّ، أنه قد حُوِّل الزواج نفسه عن مصطلحه الشرعي: «عقد نكاح»، إلى مصطلح «المِلْكَة»، في الأوساط الشعبيَّة؛ فصار الأمر «تمليكًا»، وسُمِّي المأذون «مُمْلِكًا». ولهذا أصلٌ قديمٌ يَرِد في معجمات اللغة، من نحو قولهم، كما في «لسان العرب»، لابن منظور: «الإمْلاك: التزويج. ويقال للرجل إذا تزوَّج: قد مَلَكَ فلانٌ يَمْلِكُ مَلْكًا ومُلْكًا ومِلْكًا. وشَهِدْنا إمْلاك فلان ومِلاكَه ومَلاكه... أي عَقْده مع امرأته. وأَمْلكه إيَّاها، حتى مَلَكَها يَمْلِكها مُلْكًا ومَلْكًا ومِلْكًا: زوَّجه إيَّاها... وأُمْلِكَ فلانٌ، يُمْلَكُ إمْلاكًا، إذا زُوِّج... وقد أَمْلَكْنا فلانًا فلانَةً إذا زَوَّجناه إيَّاها.» ورووا حديث: «مَن شَهِدَ مِلاكَ امرئٍ مسلم...». ونقل (ابن الأثير): «المِلاكُ والإمْلاكُ التزويجُ وعَقْد النكاح.» ثمَّ يَنْقُض اللغويُّون غَزْلَهم بقولهم: «وقال الجوهري: لا يقال: مِلاك، ولا يقال مَلَكَ بها، ولا أُمْلِكَ بها». ثمَّ يعودون لغزلهم من جديد، بالقول: «مَلَكْتُ المرأَةَ أي تزوَّجتها. وأُمْلِكَتْ فلانةُ أَمرَها: طُلِّقَتْ، عن اللحياني، وقيل: جُعِل أَمر طلاقها بيدها.» ومهما يكن من شأن هذه المادَّة اللغويَّة المتضاربة لدَى اللغويِّين، فإن استعمالها يحمل، ثقافيًّا، معنى تمليك الرجلِ المرأةَ، وكأنها قد بيعت، وأصبحت لزوجها مُلكًا، كما يملك سيارة أو أرضًا أو شقَّة أو حتى دابَّة. وهذا يؤكِّد أن فكرة الزواج قد تحوَّلت عن مقاصدها في العقليَّة الاجتماعيَّة إلى فكرةٍ من السيطرة والتملُّك. وهي فكرة تملُّكٍ وسيطرةٍ مزدوجة، من قِبَل الوَلِـيِّ ومن قِبَل الزَّوج؛ فالأوَّل- إن كان أبًا أو أخًا- يتملَّك بتزويج ابنته أو أخته المهر أو الصَّداق، الذي يستأثر به كثيرٌ من الأولياء، مع أنه حقُّ المرأة الشَّرعيُّ دون سِواها، لا يحلُّ أخذه أو أخذ شيء منه، حتى في حال الطلاق، للآية: «ولاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا». [البقرة: 229]. والآخِر، مثلك وشَرْواك، شأنه معروف!
- شَرْوايَ الطِّيب! مَن أنذرَ فقد أعذَر.. إنْ جادلتني في زواجي أو طلاقي مرَّةً أخرى، طلَّقتُك أنت أيضًا، فألغيت ما بيننا الصداقة!
- تَسمعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه!