د. صالح بن سعد اللحيدان
لعل من أجل ما نظرتُ فيه من كتب التاريخ وتراجم الرجال وكتب الرواية تلك الكتب التي تناولت أهل الرواية التاريخية من أهل البدع وكيف كانت حالهم؟
وكيف تمت رواياتهم؟
فلم أر كتاباً تاريخياً عاماً في الترجمة إلا وقد روى بعضهم عن أصحاب البدع وحالهم سواء حال الترجمة ذاتها أو سبب القول بالابتداع عند هذا، وذاك من رواة الآثار خلال العهود. والإشكال هنا أن بعض النقاد لم يعد البدعة ذاتها اهتماماً ذا بال فهم.. الحق يُقال.. بين حالات ثلاث:
1/ فهناك من تركها.
2/ وهناك من تساهل في روايتها.
3/ وهناك من تشدد حولها كثيراً.
ومشكلة (بتجريح الرواة) أنها تقف في منعطف خطير ما لم يكن هناك لها من أهلها من العلماء والمؤرخين الموهوبين من له سعة بال وطول نظر مُسدد مكين.
وطول النظر في مثل هذا أمره جليل لكن لا بد منه لمن يدخل مجال (نقد الآثار التاريخية) ويتعرض بأمانة ودقة وشفافية لحال الرواة.
وقد بذل الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- كلاماً نفيساً، وذلك حول القول بأصل براءة الذمة ممن رمي بالبدعة وبيَن حقيقة اللازم من هذا.
فهو يقول كما نقله ابن حجر في (هدي الساري):
(لو كان كل من ادعى عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبتت عليه ما أُدعي به سقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب عنه).
والذين يتأملون كلام (شيخ المؤرخين) هذا يجدون أنه قاعدة علمية بينة من تواعد النقد، وهو يريد هنا أننا لا نرد كلام كل مبتدع ولو أننا فعلنا ذلك لذهبت غالب روايات المؤرخين وعلماء الآثار.
وهذا صواب ما في ذلك شك إلا أن الذي يجب أن أُبينه هنا أنه يقصد المبتدع الذي لا يدعو إلى بدعته أما من يدعو إلى بدعته فهذا (لا ينقل عنه أبداً).
وهذا ما نص عليه ابن معين وعلي بن المديني ويحيى بن سعيد القطان وشعبة بن الحجاج والسيوطي وابن كثير وسواهم خلق كثير.
والبدع كما هو واقع من حالها وآثارها في كتب الآثار والأخبار والسير تختلف ما بين ضارة مكذوبة وبدع نشأت إذ نشأت حسنة لها.
وعليها قاعدة ما فإن الذي يكتب التاريخ والسير وأحكام الشرع من كبار العلماء في حال دراسة الأسانيد وكذا المتون والجرح والتعديل هو أن كل بدعة مكفرة لصاحبها لا تُروى ولا تُقبل رواية هذا النوع على وجه قائم في سبيل مبين.
لأنه هنا غير أمين فيما يرويه أو يُسنده، وأصل هذا أن البدعة هي ما تكون عليه حال المبتدع مما يخالف ما هو معلوم بالضرورة. عند كبار المؤرخين الثقات والمحدثين على كل حال. وهذا أمر لم أجد فيه نزاعاً بين أهل الأخبار وأهل الرواية عند المعتبرين، أنها أصل في ضرورة التثبت.
وقد كان الإمام البغدادي ملماً بمثل هذا وهو من أهل الرواية الطويلة والتقعيد الجيد، يقول ما فحواه في كتاب (الكفاية):
(لو أنني تركت أهل البصرة لحال القدر ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي خربت الكتب).
وهو قول لطيف المغزى جميل المفهوم أيضاً وهو ولا جرم قول يُؤخذ به لو كان من غير (الخطيب البغدادي) فكيف إذا كان قد صدر عنه.
ولا أزكيه على الله تعالى، ومراده هنا: (أنه ليس كل من روى أو ألف في التراجم أو الرواية أو التاريخ يؤخذ بما قام به لكن لا بد من التثبت على قدر كبير من الفهم والحفظ وحسن نظر العقل).
قلت ولكن ما هو القول الحق حسب الظاهر فيما يخص الفرق المبتدعة ممن قد ورد لكثير فهم روايات في أسفار التاريخ والأدب وروايات في كتب السنة.
هنا يفصل الخطيب البغدادي هذا بمجمل من القول لا يعدم في الذهاب إلى الصحيح الموزون، فهو يذكر الخلاف فيقول ما مؤداه:
(قد اختلف أهل العلم في السماع من أصحاب البدع وكذا أصحاب الأهواء كأهل الدين الشيعي والأهواء والخوارج).
ثم يخلص إلى القول أن من لم تكن بدعته مكفرة فلا بأس برواية ما يرويه،
أقول: إذا كان صاحب البدعة لا يدعو إليها..
والبدع في مجمل القول على حالات خمس:
1/ مكفرة.
2/ غير مكفرة.
3/ تكون في المتن.
4/ تكون في السند (في أحد الرواة).
5/ تكون في المتن والسند معاً.
وهذا على وجه التفصيل وإلا فهي ثلاث.