محمد عبد الرزاق القشعمي
لخبرة والده عبدالعزيز الذي غادر مسقط رأسه الزلفي مبكراً بحثاً عن لقمة العيش.. وكانت الكويت هي الأقرب، وهي التي يوجد بها كثير من أبناء بلدته.. رافق إحدى الحملات الذاهبة للكويت.. وكانت تلك الحملات من الجماميل أو العقيلات لا يعوقهم قرب أو بعد المسافة. والذي قال من سلف منهم: «مدري ياوميمتي أفجر البركة وإلا أروح للكويت»*.. ولكنها الحاجة التي لا تترك لك الخيار.. بمجرد وصوله الكويت حدود عام 1340هـ بدأ بأقرب وأسهل عمل لا يحتاج إلى سابق معرفة أو خبرة. وهو بناء المنازل باللبن والطين، وتوثّقت معرفته بمن سبقه إلى الكويت من أبناء الزلفي ومنهم: عبدالعزيز العبدالمحسن العباد وغيره، والذي وجدهم يعملون في البحر غواصين للبحث عن اللؤلؤ فهو أجدى وأوفر حظاً.. رغم معاناتهم وتغرّبهم وتعرّضهم لأهوال البحر ومخاطره وغدره أحياناً. ومع ذلك لم تطل به الغربة.
ولا يغرب عن البال أن خروجه من بلدته إلى الكويت شكل لديه تحولاً كبيراً فقد كان يعيش شبابه في قرية الروضة التي لا تبعد عن مركز البلدة الجنوبية (العقدة)، حيث التحق بكُتّاب المطوع عبدالعزيز الطيار لتعلّم القراءة والكتابة، ولم يمكث فيه طويلاً.. إذ طلب من والده محمد السلامة السماح له بمرافقة إحدى الحملات التي اعتادت على الذهاب والإياب من الكويت.
وفي الكويت فوجئ بمجتمع منفتح متعدد الألوان والأشكال والمذاهب والجنسيات، وهو القادم من مجتمع محدود ومحافظ إلى مجتمع آخر، فمن قلب الصحراء، حيث يعيش الأهالي على ما تجود به الأرض من مزروعات محدودة إذا كتب الله وجاءهم الغيث، فكلهم يعيشون كأسرة واحدة متعاونة (كلنا أولاد قريّة كلن يعرف أخيّه).
وجد الكويت على شط البحر الذي يعتمد عليه الأهالي بصيد السمك والغوص للبحث عن اللؤلؤ، وما يصل لهم من بضائع من مختلف الدول وبالذات الهند، والمملكة المتحدة.
استفاد من سفره أو تغرّبه باحتكاكه بالآخرين وبالذات من العراق وإيران وبقية مناطق المملكة وغيرها. مما فَتّح مداركه، وعرف أن العالم لا حدود له.. فبدل انتقادهم لأهل البلدات المجاورة لهم بأكلهم لحم البقر والدجاج، أصبح يرى ويعيش مع أجناس يأكلون كل شيء بما فيه السمك ولحوم المواشي والطيور وغيرها.. فكان يقول (من عاشر القوم أربعين يوماً صار منهم).
وبعد تحسّن حالته المادية اشترى إبلاً وبضاعة عاد بها إلى الزلفي.. لم يطل بقاؤه إذ استهواه السفر ومشاقه فعمل جمالاً ينقل التمور والبترول من المنطقة الشرقية إلى الرياض وغيرها من مدن المملكة.
وهو أحد الذين نقلوا السلاح والإمدادات التموينية للجيش السعودي في معركة السبلة بالزلفي عام 1347هـ بين الملك عبدالعزيز والإخوان عندما تمردوا عليه بقيادة فيصل الدويش.
وخلال الاستعداد للمعركة كان ضمن الخمسين شخصاً - عن طريق برجس العثمان - الذين تسلَّموا سلاح الشيوخ من أهالي الزلفي عام 1347هـ وهي عبارة عن بندق وفشك.
وعندما جاءه خبر وفاة والده عاد واستقر بالزلفي، وتزوج فأصبح مجلسه عامراً بمرتاديه، إذ اشتهر وعُرف عنه الوفاء والكرم والسخاء. وعامل أولاده بالتسامح والعدل وتوجيههم لما يرى أن فيه المصلحة لهم وللوطن وبالذات التوجه لطلب العلم.
ومن بين أولاده نذكر (عبدالله) المولود سنة 1355هـ والذي بدأ مسيرته العلمية بكتَّاب المطوع عبدالله الغيث المعروف بلقب (العفري)، ثم التحق مع الدفعة الأولى بالمدرسة بعد افتتاحها رسمياً سنة 1367هـ، وتخرّج منها مع الدفعة الثانية عام 1372هـ. ونجد جريدة أم القرى تنشر في عددها 1376 الصادر يوم الجمعة 21 ذو القعدة سنة 1370هـ الموافق 24 أغسطس سنة 1951م. تحت عنوان: الناجحون الأوائل في الاختبار النهائي لعام 1370هـ من مدرسة الزلفي أنه قد نجح من السنة الرابعة.
بعد تخرّجه عام 1372هـ سافر إلى الرياض والتحق بمعهد الرياض العلمي عام 1373هـ ليتخرّج منه سنه 1377هـ وكان وقتها قد التحق بالمدرسة المتوسطة بالرياض (ليلي) ودرس ثلاث سنوات إلا أنه لم يدخل الامتحان لتعارض مواعيد الاختبارين.
التحق بكلية الشريعة في الرياض وتخرّج منها سنة 1381هـ.
ومنح شهادة إتمام الدراسة العالية في كلية العلوم الشرعية بتاريخ 15-11-1382هـ موقعة وممهورة باسم رئيس المعاهد الدينية وكان وقتها مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
عين بعد تخرّجه من كلية الشريعة في سلك القضاء، لتميزه ونبوغه من الناحية العلمية، ولكنه لم يباشر العمل من باب الورع، مختاراً التعليم، فعيِّن مديراً لمعهد المعلمين في الزلفي سنة 1382هـ حتى سنة 1387هـ وإلى جانب عمله مديراً للمعهد فقد أسند إليه إدارة أول مدرسة متوسطة في الزلفي عند افتتاحها سنة 1385هـ حتى سنة 1390هـ.
عيِّن مديراً لمكتب التعليم بالزلفي عند افتتاحه سنة 1390هـ وبقي فيه حتى سنة 1399هـ، وكان في ذلك بمثابة أول مدير تعليم في الزلفي.
وعند زيارة سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير الرياض (الملك حالياً) يوم السبت 23-3-1392هـ نجد الأستاذ عبدالله السلامة مدير التعليم يتصدر قائمة المحتفين والمرحبين به ضمن برنامج المهرجان الرياضي المقام على شرفه بإلقاء كلمة التعليم.. التي أوضح فيها معلومات وافية ضافية عن وضع المنطقة التعليمي الناهض والتطور العلمي الكبير الذي ترعاه وزارة المعارف بتوجيهات من جلالة الملك فيصل.
تُرجم له في: (موسوعة تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية في مائة عام) التي أصدرتها وزارة المعارف بمناسبة ذكرى المئوية، قالت فيه: «.. إنه عمل في التعليم من عام 1382هـ بعد أن اعتذر عن العمل في القضاء، فعيّن مديراً لمعهد المعلمين بالزلفي من عام 1382هـ حتى انتهى المعهد عام 1390هـ ثم مديراً لمتوسطة الزلفي التي حلت محل المعهد، وفي نهاية العام تم ترشيحه مديراً لمكتب التعليم بالزلفي حتى عام 1399هـ ثم ابتعث موجهاً تربوياً في الجمهورية اليمنية عام 1400هـ فعمل هناك مدة أربع سنوات. عاد بعدها إلى تعليم الزلفي، فعمل موجهاً، ثم معلماً في التعليم الثانوي والمتوسط حتى تقاعد عام 1415هـ «.
ولهذا أمضى في خدمة التعليم ثلاثاً وثلاثين سنة. وكان خلالها حريصاً على تنمية قدراته الوظيفية، ومتابعة كل مستجدات التربية والتعليم. من خلال التحاقه بالدورات التدريبية. ومنها على سبيل المثال وليس الحصر:
- دورة مديري المدارس المتوسطة والثانوية التي نظمتها وزارة المعارف في مدينة الطائف لمدة ستة أسابيع في 12-3-1386هـ.
- دورة تنمية كفاءة الموظفين في التوجيه والإشراف والرقابة، وقد نظمها معهد الإدارة العامة في مجال إدارة الأجهزة الحكومية لمدة ستة أشهر في 13-1-1395هـ.
ونجد مدير عام التربية والتعليم بالجمهورية اليمنية بتعز يوجه له خطاباً يدعوه فيه إلى حضور مهرجان عيد المعلم يوم 30-4-1981م بمعهد المعلمات لتكريمه ضمن الموجهين الممتازين.
كما نجد مدير عام التربية والتعليم بالجمهورية العربية اليمنية عبدالفتاح جمال محمد يقدّره بشهادة شكر عند نهاية ندبه للعمل هناك «.. نظراً لجهودكم وتعاونكم في العمل التربوي والتعليمي، ولما لمسته إدارة التربية من تعاونكم وإخلاصكم فإننا نسجل لكم شكرنا وتقديرنا البالغ متمنين لكم مزيداً من التقدم والنجاح في رسالتكم السامية..».
وكان حريصاً على المشاركة في العمل التطوعي مع أبناء الزلفي للمطالبة بتوفير الخدمات التي تتطلبها الزلفي وتطوير ما يحتاج منها إلى تطوير.
إضافة لما لمسه الجميع منه من التزام وجدية في العمل، وقربه من طلبته مما حببه لهم.
وكان يقضي أوقات فراغه في قراءة الكتب التراثية والثقافية العامة، فكان يُشهد له بحسن وجودة الخط العربي. إذ كان يجيده بجميع أنواعه.
توفي -رحمه الله - في مدينة الرياض يوم السبت 2 رمضان 1417هـ ودفن بمدينة الزلفي في اليوم التالي.
وقد خلف - رحمه الله - عشرة أبناء وبنتاً واحدة. وجميع أبنائه متعلمون، حصل خمسة منهم على التعليم العالي.
قال عنه تلميذه الأستاذ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار في رثائه بجريدة الرياض.
(رحمك الله يا أبا فهد) «.. عايشت الفقيد عن قرب فلمست فيه المربي الفاضل، والأستاذ الناجح، والعقلية الفذة، يملك جليسه بحديثه العذب وأخلاقه العالية..».
وقال عنه زميله بالمعهد العلمي بالرياض الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف من حريملاء: «.. وقد تميزت حياته العملية بالجدية والتنوّع، حيث مارس جميع المهام التعليمية الرئيسية، معلماً، ومديراً، وموجهاً، ومديراً لمكتب التعليم، وموفداً للعمل خارج المملكة، حصل خلالها على شهادات شكر وتقدير من الملحق التعليمي السعودي في اليمن، ومن وزارة التربية والتعليم في الجمهورية العربية اليمنية...
وعلى الصعيد الشخصي اتسم - رحمه الله - بالتدين والورع، واشتهر بالتواضع ولين الجانب، واحترام الصغير والكبير، ومحبة الخير للناس وكف الأذى عنهم، كما كان كثير التسامح مع أصحابه وجلسائه ... إلخ..».
... ... ...
*وكانت والدة أحدهم تحثه على سرعة فجر سدادة بركة الماء ليتم توزيع الماء على أحواض النخل وأشراب الزرع، وهو يرى إحدى الحملات المتجهة إلى الكويت على ظهور الإبل في أعلى الطعس.. فيرد عليها بقوله: ما أدري يا وميمتي... وهذا يدل على قوة الإرادة والعزيمة وأنه لا يفرق بين ما هو بقربه وبين مكان يبعد عنه مسافة لا تقل عن 400 كم.