د. إبراهيم بن محمد الشتوي
عادة عندما نتناول الظواهر اللغوية والأدبية بالدرس والتحليل فإننا نعنى بالظواهر اللغوية في اللغة الفصحى التي نعتبرها الفضاء الصحيح لكل الظواهر، والقضايا الأدبية والعلمية، ولا نعد ظواهر اللغة العامية تستحق الدراسة والتأمل، أو بالأحرى لا نعنى بها.
لستُ في سبيل تعليل هذه الظاهرة، أو نقدها ورفضها، ولكني أظن أن الموازنة بين الفصحى والعامية في صلاحية الدراسة من عدمها ليست دائماً صحيحة؛ وذلك بناء على اختلاف كل لغة منهما، والفضاء الذي تتحرك فيه.
على أن هناك من يرى أن العامية لا يمكن أن تنمحي من الوجود مهما جهدنا بالعناية بالفصحى وبتطوير لغتنا اليومية، بل إن الأستاذ الدكتور عبد العزيز الفيصل يذكر أن العامية كانت موجودة في عصر ما قبل الإسلام، ولا أدري ما شواهده على ذلك أو ما استند إليه.
وكنت دائماً أرى أن اللهجة العامية ضرورة الدراسة في أقسام علم الاجتماع والأنثربولوجيا بوصفها ظاهرة اجتماعية، بمعنى من زاوية ما يسميه الباحثون بعلم اللغة الاجتماعي؛ وذلك أنها تكشف ما يعتمل في المجتمع من ظواهر بوصفها قادرة على أن تعبّر عنه أدق تعبير؛ ففيها من الظواهر اللغوية ما لا يوجد في الفصحى، خاصة من جهة قدرتها على التشكُّل والتلون بخلاف الفصحى التي ثبتت في الغالب في مستوى لغوي معياري (لا أدري إن كان هذا مدحاً أم ذماً). هي لغة عصر ما قبل الإسلام أو العصور العربية الذهبية، وحركة الفصحى تأتي ضمن هذا المستوى المعياري.
وهذا ما يتحدث عنه الباحثون فيما يسمونه مرة باللغة الوسيطة أو الفصيحة أو «البيضاء»، ويقصدون بها اللغة التي يعتمدها «المثقفون» والكتّاب في حواراتهم؛ إذ هي ليست عامية محلية بحتة، ولكنها لا تلتزم بالفصحى التزاماً كاملاً من حيث الضبط بالشكل أو التراكيب اللغوية أو حتى من حيث التجوُّز في استعمال الألفاظ.
وقد يكون مفهوماً بالنسبة لهؤلاء الذين قضوا أعمارهم في المدارس يتأبطون كتبهم، أو يدسون أعينهم فيها، أن تختفي لهجتهم المحلية، أو تكاد خلف لغة علقوها مما يقرءون، ويتحفظون، ومارسوها بعقولهم -ربما- أكثر مما مارسوا لهجاتهم المحلية.
لكن الذي ليس مفهوماً - لي على أقل تقدير - أولئك الذين اصطنعوا لغة خاصة بهم، علقت بألسنتهم حتى استبدت بها، وقضت على لغتهم المحلية حين يتحدثون، وأعني بهم طائفة العسكريين. فمنذ زمن ليس بالقصير وأنا ألاحظ بعض أقربائي أو لداتي ممن انضموا إلى العسكريين، وقد تركوا لهجتهم المحلية، وبدؤوا يتحدثون لهجة تجمع خليطاً من التراكيب والمفردات، مع طريقة نطق متميزة، تظهر فيها الإمالة والإشمام على قول علماء الأصوات.
في هذه اللهجة تظهر اللكنة البدوية النجدية، لكنها ليست مسيطرة، ولا غالبة، وإنما فيها شيء من عامية حضر الحجاز وباديته، ولغة أهل الجنوب بمستوياته المختلفة (عسير وجيزان)، إضافة إلى لهجة المنطقة الوسطى والشرقية والشمالية.
الأمر الطريف في هذه اللهجة أو اللغة أنها تظهر في أحاديث عدد من العسكريين (لا أريد أن أعمم؛ لأن التعميم لا يخلو من مزالق)، بغض النظر عن المنطقة التي انحدر منها، واللهجة الأولى التي كان يتحدث بها من قبل؛ فهي لغة واحدة، يجتمع فيها العسكريون باختلاف لهجاتهم الأول، وباختلاف رتبهم أيضاً؛ إذ يستوي فيها ما يسمون بالأفراد أو ضباط الصف (لستُ دقيقاً في المصطلحات العسكرية)، ومَن هم فوق ذلك من الضباط برتبهم المختلفة.
ولا أدري إذا كان لهذه اللهجة وظيفة عسكرية معينة أو تربوية، يسعى القائمون على التدريب العسكري إلى الاعتماد عليها للقيام بتلك الوظيفة، ولقياس تحول الفرد وانتمائه إلى المؤسسة العسكرية، بانسلاخه من انتمائه القبلي والمناطقي لانصهاره بهذه المؤسسة الجديدة؟
أو إذا كان لها وظيفة سياسية أو أمنية، كما لا أدري حقيقة إذا كان العسكريون يستعملون هذه اللهجة في مواقف معينة أو مناسبات محددة أو أجواء محددة، أو في رتب معينة، ثم يعودون إلى سابق لهجاتهم، وطرائقهم في الحديث بحسب طبقاتهم الاجتماعية بناء على نظرية أن لكل طبقة اجتماعية لغة خاصة بها، أو مستوى لغوياً خاصاً بها.
والأمر الأكثر غرابة بالنسبة لي: لِمَ صارت اللكنة البدوية النجدية هي الأساس الذي انبنت عليه سائر اللهجات، وانصهرت فيها حتى أصبحت عناصر مكونة لها، فما هي بالبدوية ولا هي بالحضرية، ولا هي باللهجة القصيمية ولا العسيرية أو الجيزانية؟ إن مثل هذا التكوين الفريد لا بد أن يكون قد صنع بحذق في أحد معامل اللغة حتى جاء على قدر الوظيفة المنوطة بها.
وأنا لا أتحدث عنها هنا من مبدأ الصواب والخطأ الذي يتحدث عنه اللغويون المعياريون، ولا من مبدأ قربها أو بعدها من الفصحى، وإنما من خلال الوظائف التي أشرت إليها من قبل، وهي بحاجة فعلاً إلى دراسة مطولة ومستقصية لجوانبها المختلفة.