د. فهد بن علي العليان
خلال سنين عديدة، إذا ذكر اسم (د. محمد الربيع) في ردهات جامعة الإمام، فالحديث عن الانضباطية والالتزام والجدية. وقد تمنيت كثيراً بأنني أحد طلابه؛ إذ لم يكن أبو هشام أستاذي (حقيقة)؛ حيث إنني لم أجلس أمامه في قاعة الدرس، لكنه أستاذي (حكماً)، إذ استفدت منه خلال سنوات كثيرة علماً وفضلاً وخبرة.
من أول اللقاءات التي جمعتني به في أثناء زيارة مسؤولي جامعة الإمام إلى معهد العلوم العربية والإسلامية في واشنطن خلال فترة تدريسي اللغة العربية لغير الناطقين بها عام 1995-1996م، حينها حضر مسؤولو الجامعة للالتقاء بمنسوبي الجامعة ومبتعثيها. في ذلك اللقاء لم أقترب منه، لكنني راقبت حديثه وأحاديثه وتعليقاته ومداخلاته الهادئة المنضبطة، ثم استمر اسم الربيع يتردد بوصفه وكيلاً للجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي، وعندما عدت من البعثة لدراسة الدكتوراه في مطلع عام 1421هـ، بدأت في تدريس المقررات في معهد تعليم اللغة العربية أدخل قاعة وأغادر أخرى إلى أن جاءني - دون علمي - توجيه معالي مدير الجامعة للانضمام إلى أمانة الاحتفاء بمرور عشرين عاماً على تولي الملك فهد -رحمه الله- مقاليد الحكم بصحبة الزميل الأستاذ الدكتور إبراهيم المزيني، فانطلقت إلى مقر الأمانة في قلب مبنى إدارة الجامعة نواصل عملنا في المساء يتبعه النهار مع زملاء فضلاء لا تزال ذكراهم باقية إلى هذا اليوم، وفي تلك الفترة عرفت (أبا هشام) عن قرب، واستفدت منه كثيراً.
كان أبو هشام بمثابة (الترمومتر) للاحتفاء ولجانه المتعددة، فيوجه هذه اللجنة، ويتواصل مع الأخرى، وكان أغلب وقته في قلب أمانة الاحتفاء يتابع ما يتعلق بالمتحدثين والمدعوين والضيوف، وكان لا يفتر عن التوجيه والمساندة، ويعطي من وقته وعلمه لنا نحن الذين للتو بدأنا في سلم العمل الأكاديمي والعلمي. في تلك الفترة التي امتدت أشهراً قبل وأثناء وبعد الاحتفاء، أتذكر جيدا أنني اقتربت منه كثيرا على المستوى العملي والعقلي، فلا أكاد أخفي إعجابي بتعامله الرقيق الحازم، ولم تخف علي كلماته وتشجيعه المنطلقة من إعجابه بعملي المتواضع، وهكذا يصنع الكبار مع من هم في حكم طلابهم سنا وتجربة.
قضينا أوقاتا ليست قصيرة في تحكيم أوراق العمل والأبحاث العلمية للمؤتمر، وكذلك في صياغة التوصيات التي كان يعمل عليها (أبو هشام) بما وهبه الله من علم وخبرة ودراية، وكنت أترقب كلماته وأستفيد من تعليماته. وبعد نهاية جلسات اللقاء، جلسنا فترة من الزمن نعمل على إخراج الأبحاث، وإنهاء أعمال المؤتمر، وفي تلك الأثناء كانت تجمعني لحظات كثيرة معه في مكتبه، حينها أخبرني بطلب معالي مدير الجامعة - آنذاك - أن أكون مشرفاً على مكتبه، فطلبت منه - مشكورا - مساعدتي في الاعتذار؛ رغبة في التدريس والعمل على إنهاء الأبحاث العلمية لأنها أساس عمل الأستاذ الجامعي، فقبل ذلك بكل لطف وأناقة، ثم قال لي: ما رأيك أن تعمل في المجلس العلمي وأمانة مجلس الجامعة؟ فخجلت منه، وكررت رغبتي السابقة، ثم أخبرته أن لدي رغبة علمية وهي الانتقال إلى (قسم التربية) بكلية العلوم الاجتماعية؛ إذ هو الأقرب لأنني أحد خريجي كلية التربية بجامعة (أوهايو) في أمريكا، وعلى الفور بدأت بتقديم الطلب فوافق القسم والكلية، ثم جاء دور الزملاء في معهد تعليم اللغة العربية؛ حيث أبدى كثير منهم اعتراضه على انتقالي لا بحجة الحاجة وليس بسبب الغرض من الاستفادة مني، ولكن لأنني أحد مبتعثي المعهد لمرحلة الدكتوراه، وكأنني بهذا الانتقال سأغادر إلى كوكب آخر. أسجل هذا وأنا أعذرهم على حسن ظن بعضهم بأخيهم بعد أن غادرهم وتيسرت الأمور لأستقر في قسم التربية إلى أن غادرت الجامعة وسجلت حروفي الباكية « خارج القاعة».
أعود للحديث عن « الربيع» الذي يملأ حياة من حوله ربيعا بكل إهداءاته ومعلوماته وتجاربه وحسن حديثه في كل اللقاءات معه، فقد تعودنا على أن يحضر أبو هشام ومعه مجموعة من كتبه أو كتب أخرى يهديها لمجالسيه في لجنة علمية أو ندوة أو غير ذلك. وإن نسيت فلا أنسى أنه عندما تسلّم رئاسة النادي الأدبي في الرياض دعاني لتقديم محاضرة عن «القراءة» فاعتذرت لقصر قامتي، ومع إصراره وحسن ظنه وافقت وذهبت قلقاً وقدمت المحاضرة وجاورته وهو قامة، ثم أبهجني حين قال لي: «من أجمل الندوات في النادي»، فكان كلامه تشجيعاً لمن هو في عمر طلابه. استمرت العلاقة واللقاءات به وبحضوره، بالإضافة إلى المشاركة معه في بعض اللجان المرتبطة بتعليم اللغة العربية، وكنت دائماً أتوقع أنني سأصل قبله في الاجتماع أو المناسبة وتكون المفاجأة وجوده بهدوء وسكينة بعيدا عن الرسميات والأبواب الرسمية.
أستطيع أن أقول جازماً: إن الجلوس مع أبي هشام متعة فلا يخلو من فائدة علمية أو عملية، ودائماً ما يردد صاحبنا المشترك د. عبدالله الموسى بأن محمد الربيع مدرسة في الإدارة ومعرفة الأنظمة، وهذا ما يظهر جلياً عند الحديث وخاصة ما يتعلق بأنظمة ولوائح الجامعات. وإن نسيت فلا أنسى تكريمه من النادي الأدبي في الرياض بحضور وتشريف أمير منطقة الرياض صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز، وهذا يدل على تقديره في الأوساط الثقافية والعلمية والرسمية.
وأخيراً، يبقى محمد الربيع أستاذاً قديراً يجالس طلابه ويسافر معهم ويحرص على إفادتهم، ولا يتعالى عن الاستفادة منهم، وهذا هو عمل العلماء والكبار قدراً وعلما.