د.زكية محمد العتيبي
كانت المدربة في مدرسة القيادة تحاسبنا على عدم تنفيذ الاستراتيجية الخاصة بـ(النقطة العمياء)، وهي استراتيجية: (الكتف العميق)، وتعني: النظر إلى الخلف بلف الرأس صوب الكتف بعمق لمشاهدة الشارع من الخلف بشكل جانبي؛ فإذا لم نُطبِّقها في حينها، وبسرعة خاطفة، نستجمع فيها كُلّ قوى التركيز، قد نجد أنفسنا في مواضع الخطر!
تُعرفُ النقطة العمياء في عالم قيادة السيارات بأنّها: «المنطقة التي لا يشاهدها السائق خلال جلوسه في مقعد القيادة، ولا تعكس ما فيها المرايا الجانبية، والمرآة الداخلية». فهي منطقة خطرة، تتسبب في معظم الحوادث، ووجود التقنية الكاشفة لها في السيارة - غالبًا - يزيد من سعرها؛ لارتفاع مستوى الأمان في ذلك النّوع من السيارات.
في النقطة العمياء من الممكن أن توجَد السيارات بمختلف أحجامها إذا جاءت على حين غفلة من مستوى الإدراك والنظر؛ فعند تغيير المسار دون أخذ (كتف عميق) قد يقع ما لا نتمناه.
إنّها جالبة المشاكل في عالم السيارات، وفي صحتنا النفسيّة؛ فعندما تعبرنا مواقف متعددة في يومنا قد لا نعبرها، ونظل حبيسين فيها دون أن نشعر بأنّنا ما زلنا أسرى لحظة عابرة. فعندما لا نخصص في نهاية يومنا ساعة للتطهر مما علق بنا بالالتفات لما مضى من تفاصيله ربما نجد أنفسنا قد وقعنا في شَرَك الطاقة السلبية وما يعقبها من إحباط وتدنٍّ في مستوى تقدير الذات، أو الشعور بعدم الإنجاز.
النقطة العمياء في النفس البشريّة تشبه تمامًا النقطة العمياء في عالم السيارات؛ فإذا بُلينا - على سبيل المثال - بكلمة مؤذية، ثم أكملنا يومنا دون محاورتها، وتبرير أسبابها، ودعم ذواتنا بحوار إيجابي حولها؛ سوف تتحول الطاقة السلبيّة في أعماقنا إلى كرة من الثلج، تتدحرج وتكبر في الخفاء، حتى نُفاجَأ بأنّنا قد وصلنا إلى طريق مسدودة في وجه الصبر، والتّحمُّل في علاقاتنا، وإكمال مسيرتنا وطموحاتنا.
كنت - وما زلت - في دوراتي التدريبيّة - سواء على مستوى القيادات أو على مستوى الأفراد - أتعمد ذكر ضرورة قضاء ساعة مع الذات يوميًّا خلال رياضة المشي بعيدًا عن الأجهزة.
وحاجتنا لهذه السّاعة ماسة جدًّا في هذا الوقت الذي اختطفتنا فيه مواقع التواصل، والبرامج، وجعلتنا متاحين طوال الوقت للآخرين؛ لأننّا سنقع في فخ النقطة العمياء، وسنتورط بما يصيبنا من جراء الارتطام النّفسي بكلّ ما يقع في تلك المنطقة الخفيّة.
لماذا الحديث مع النفس؟
لأنّه يكشف الصورة المتكاملة لما حدث من مواقف بسيطة ويفسرها، ويخفف من التوتر، والشعور بالوحدة، ويساعد على تنظيم الأفكار، والتخطيط للإنجازات، وتحقيق الأهداف. ولن أبالغ إذا قلت: إنّ أحد الأسباب الرئيسة في بعض الأمراض النفسيّة هو عدم الاقتراب من الذات، والتحدث إليها، وتذكيرها بأهم إنجازاتها - مهما قَلّ شأنها - فبعض الأشخاص يتحدثون مع الآخرين أكثر من التحدث مع أنفسهم؛ فتشعر الذات بغربتها؛ لأنّنا انشغلنا عنها بغيرها، فتكون ردة الفعل من هذه الفئة مضاعفة أكثر من أولئك الذين اعتادوا على التحدث مع أنفسهم، وتخفيف وطأة الألم عنها، والتّسامح معها إنْ أخطأتْ.
النقاط العمياء في داخلنا تحتاج إلى بصيرة يوميّة؛ فهي أشبه ما تكون بمثلث برمودا؛ تلتهم كلّ شيء، وتصبح مع مرور الزّمن منطقة خطرة، ووعرة، قد تلتهمنا؛ وتحوّلنا إلى أحياء برتبة أموات.