د.سهام صالح العبودي
قد لا تكون هذه الأيَّام هي أفضل ما مرَّت به الإنسانية في تاريخها، وما إن نلتفت إلى الوراء حتى نرى أنَّ العالم قد انزلق في خنادق من الأزمات حولت وجهه، لكنه كان يعرف أنه ينجو حين يأمُل، وأنْ يأمُلَ يعني أن يَعمل؛ لأنَّ الحياة تستمر بحركة الدفع الإنساني نحو البقاء.
وهكذا يأتي إعلان إنشاء (مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية) وجهًا من وجوه الأمل والتطلع إلى الغد؛ فليس هذا المجمع بشارة للغويين وحدهم، بل هو بشارة للحياة، للفضاء والرحابة والأمل. لتلك الصورة الروحية: صورة استبقاء الحياة وانتظامها، والحفاظ على سيرورة العمل، وحب الاشتغال بالأمور الكبيرة. صورة تؤكد: أنَّ البناء يهدم الخوف، وأنَّ الأمل إنما يُستدرج بالعمل.
أما الصورة الأخرى فهي هذه الغنيمة المعرفية، والوظيفية الوافرة التي سيحققها هذا المجمع بوصفه منشأةً فاعلة تعلي شأن اللغة العربية وتعدها قيمة حقيقية تستحق أنْ تُسور بالمعرفة، وتُخدم بالمنهج، وتُقدم بأفضل ما أنتجه العالم من وسائل ومخترعات؛ كما تقتضي ضرورة هذا العصر وحاجاته. ومن لا يرى هذه الحاجات فهو لا يرى العالم على حقيقته، ولا يرى خطواته المتسارعة الذاهبة إلى المستقبل بأقصى سرعة؛ وهذا يتطلََّب منَّا خطوات مماثلة تجوهر وجود اللغة بالحلَّة العصرية، بالوسائل التي تمد حبل الوصل بين الكتاب ولوحة المفاتيح، وتحول سطر الكتابة صوتًا وصورة، أي أن نكون خدامًا لهذه اللغة العظيمة بكل ما أوتينا من أدوات، وكل بما مُكنت منه أيدينا، وبما صار في الحوزة مما هو قابل لأن يُنتفع به.
ولدت العربية فوق هذه الأرض، ولحق ناطقوها بها انتسابًا؛ لأنَّ لسانهم كان أعرب لسان، وأبين منطق؛ فغدت أمة يُشار إليها بلسانها. وإذا كانت اللغة دليلا يقود إلى تعرُّف الفكر، فإنَّ العربية كانت دليلاً على أمة المنتسبين إليها: أمة ذكية لمَّاحة يُستشف ذكاؤها من الإبداع القولي الذي خلَّفته، ومن تلك الإشراقات التعبيرية التي تتوالد كلَّما ورد العربي بحرفها معناه، ولا عجب إذن أن يُمتدح المرء بالفصاحة وحسن الإبانة وحلاوة المنطق، وأن يُذم اللحَّان؛ فاللحن قصور في الفهم، وضعف في الانتباه، وصورة من صور العجز الذي يحطُّ من قيمة الكلام ويتوَّه عن معناه؛ فما اللغة إلاَّ جسر عبور الفكرة من عقل إلى عقل، ومن زمن إلى زمن.
وإذا كانت العربية قد نبتت صوتًا عريقًا في هذه البقعة من العالم فحق إذن أن تُكرم في موطنها، وأن يُحتفى بها في محلها؛ تحقيقًا للبنوة البارة بلسانها، المتنعمة في غنى هذا الميراث، وفضاءات تعبيره الواسعة، فجاء هذا المجمع ليكون أفضل ما يمكن أن يخدم به وارثٌ إرثَه، وما من وارث هو خير من رأس الدولة المفكر: ملكٍ واعٍ مُستنطِق للحاجات، ومُدرِك لما يعتور المرحلة من نقصٍ فيسدُّ ويسدِّد، ويتمكَّن فيُمكِّن.
وما يسر في هذه البشارة اللغوية أنها وافقت موعدًا عزيزًا تستذكر فيه هذه البلاد لحظات ماضيها المشرق في عامها التسعين؛ مثل رسالة تُنبِّه إلى ما يقيم الأوطان، ويستبقيها على وجه الحقيقة وهو: أنَّ فطنة التمسك بالجذور هي التي تحققُ التماسك، وإذا كانت مرساة ثبات هذه البلاد في دينها، فإنَّ اللغة القويمة هي حصانة هُوِيتها، وصوت أفكارها، ومرآة مبادئها، ووجهٌ من الوجوه التي تقدم بها نفسها إلى العالم مشرقًا مكلَّلاً بالمروءة، معززًا بدينٍ هو خاتم الرسالات، وما من شرف لهذه اللغة هو أسمى من أن يكون آخر حرف خاطبت به السماء الأرض كان هو هذا الحرف العربي.
فما أشرف ما أوكل الله به هذه البلاد، وما أجلَّ ما خصها به: خدمة هذا الدين والعناية بلغته!
* إنَّ اللغةَ عَالَمٌ يحملُ العَالَم!