قبل أن أبدأ كتابتي هذه سآخذكم في جولة قُرّائية في مفهوم أدب الشفاه أقصد [المشافهة الشفهي]. بداية يقول المستشرق الإيطالي جوفاني كانوفا عن الأدب الشفهي:
(هو الأدب الشائع في الطبقات التي تسمّى عادة بشعب أو عامّة، وله ميزات خاصّة به في بعض الأحيان، مشابهات مع الأدب «الكلاسيكي»، ويستعمل اللهجة المحلية أو لغة شبه فصيحة، سهلة فيها تعابير كثيرة باللغة العامية).
فالتعريف للأدب الشفهي كما يقول الكاتب المغربي أسامه خضراوي:
هو المرآة التي تعكس الصورة الحقيقية لحياة مجتمع من المجتمعات.
الأدب الشفهي من وجهة نظري:
ما تتناقله الأُذن إلى مسامعها مشافهةً عبر شخصٍ آخر ذي ثقةٍ في جديد الحكايات والغرائب والأساطير, ويسري في المجتمعات العامة والنخبوية كما تسري به الرُكبان. إذًا هو ما تناقلته الألسن، وما وصل للأذن مباشرة، بعضها تم توثيقه، وبعضها ذهب مع أصحابه. وهنا تبقى الإشكالية في المشافهة أنها تموت بموت صاحبها إن لم يوثق أو يكون هناك تواتر في روايتها.
والسؤال الآتي: من يحكم بصحة هذه القصة أو تلك؟ وكلنا نعرف أن أُمهاتنا وجداتنا كن يَخْتلقْن القصص إما للتخويف أو الموعظة، والكثير من القصص نجدها في أكثر من دولة أو منطقة, تُحْكى بطريقة وأسماء مختلفة، بنهايات مختلفة.
لا بد لي الآن أيها القرّاء الأعزّاء من إثبات أن الأدب الشفهي يُقْرَأ كالكتاب، بل يعدّ مشوقاً لدرجة الدخول في عوالمه الغيبية «ميتافيزيقيا»..
ومن هنا سأنطلق في كتابتي مما سمعته من أمي - رحمها الله - مشافهةً:
أمي وحكايتها الأولى:
حوار بين أم وابنها، وبينهما بلبل النُغْري. أمي ما قصة السعلي؟
يا ولدي في الليل نحكي! والثنايا في المرايا تبكي، ذكرى أسطورة السعلي.
أرخى السواد سدوله، واستجرّ السؤال الحكاية! نم قرير العين يا ولدي
أمي لا تزيدني رهبة «بحمّال الضمود» 1! انزعي ثوب حلمي بخيط الرواية:
كان يا ما كان.. في سالف العصر والزمان، امرأة تراقص أهازيج المساء، تحثو خطاها لتزغرد في صدة «حَمْدَه»، وبياض «الحُوْكَة»2 ناصع يبلغ حدّه، وعندما تسربلت قدماها قرب حَبَلة عيّاش، صرخت الآه، وكأن طيف كل من مات عاش.
سافرت فوق السحاب تهدهد الغيم، تهطل أحلاماً وردية وحمده واعليه!
والجماعة بمطارق الزير يقصّدون. دلفت في لمحة البصر بعد العصر عند باب مستورة القديم تحت «الرعش» 3، ورأسها متعب من سوالف الوحش.
فإذا بعجوز ونظارتين هناك عند «البداية»4 تمشط شعرها يا ولدي أسنانه من خشب!
كل شيء في الساحة موحش.
أبواب تُفْتح وتُغْلق، وأصوات تسمع وتُقْلِق.
سلّمٌ طويل من حجر، والكثير من الخشب.
وفوقه رجال هناك ملثمون، كأنهم يحفرون الخنادق، ينظرون محملقين.
وعليها يصوبون البنادق، فصرخت الآه آنا في وجه الله!!
قُيدت الأيدي والأرجل موثوقة بالزافر، والخوف يخط الحافر على الحافر.
يا هبان الريح اغيثوني اغيثوني!! والمدهش يا ولدي أنياب السعلي مغروزة اثنين اثنين والزير يجمعهم، والنيران تكمل حكاية الرعب.
رجال وصبايا شبكوا في اللعب، ورائحة مرقتها يوه تغلي.
ضَحِكَتْ.. نِمْتَ يا ولدي؟
هذه حكاية السعلي!
في الجزء القادم.. قرية الخِرِبَة أسطورة الجن المنسيّة.
... ... ...
1 - بحمّال الضمود: هو اسم من أنواع الجِنّ بالجنوب
2 - الحوكة: غطاء أبيض تتزيّن به نساء الجنوب على صدورهن
3 - الرعش: الشُرْفة لكنها مصنوعة من الخشب
4 - البداية: النافذة
** **
- علي الزهراني (السعلي)