فبين النسوة والوعي ذات ومسافة للتأمل والإدراك وبين الشعور بالغيبوبة والصحو مسافة أخرى للمعرفة والشاعرة بذلك تقيم بين المسافتين مدلولاً إيحائياً للمعرفة ومكانة لبلوغ التمعن وكأنها بذلك تواكب الشعور وترفع من الهيئة المدركة أشواقاً تقيم على عتبات التصور وهي بذلك تقيم حيثية الشعور في مكانة لا ولوج إليها إلا باستنطاق المحظور من الشعور.
وفي أكثر من قصيدة من قصائد ديوانها (البحر حجتي الأخيرة) تستلهم الشاعرة من المفردة دلالات موحية تجعل من المد التأملي مساحة للتمعن ومكانة لاستقصاء الإدراك ففي قولها من قصيدة (أجتاز هجرتنا):
سفَرًا إلى قاعٍ من الموتى
ترتاحُ فيهِ عوالمٌ شتّى
أنزلتُ فيه ضجيجَ من رَحَلوا
ورفعتُ منهُ إلى فمي صمتَا
عُلقتُ ثَمَّ ولم أجدْ ليَدي
ما كان أسبلَ داءها صوتا
يا أيها المبنيُّ في شَفَتي
ما ضرّ هدمك لو تحدثتَ
هبني دمارًا بالغًا لغةَ
عبستْ لهُ أن جاءها الأعتى
فالشاعرة في هذه القصيدة تقيم مدلول الزمان وتستوحي الأمكنة المبعثرة في الشعور وتجعل من المسافة بين الماضي والحاضر مدلولاً للوحي فالزمن في القصيدة متسرب من حيث البلوغ للمكان والحاضر يواكب الشعور بالموت بينما الماضي مغيب في الهجس وبين المدين الحاضر والماضي مدلول البلوغ للمعرفة فهي تجعل من الشعور بالماضي وحياً متسرباً في الإدراك وتجعل من البقاء حيثية للتكوين إذ هي تتناول الماضي من حيث إنه موت وتجعل من الحاضر مساحة لبلوغه تتسرب مدلولاتها من واقع تقيم به متناقضات الحياة والشاعرة هنا تعمق الفكرة بين الحياة والموت وتثري فكرة الموت بقولها:
سفَرًا إلى قاعٍ من الموتى
ترتاحُ فيهِ عوالمٌ شتّى
فالموت مكان يقيم فيه الحاضر مده وشعوره مسافر إلى حيث العدم والمسافة بين الموت والحاضر قائمة في الذات وبين مدلول الإيحاء بالموت ومدلول البقاء تجسيد للإيحاء الشعوري بالمكان، وهذه بلاغة قوية تعتمدها الشاعرة في تناولها للماضي والحاضر ومدلول عميق يقيم حده في اللغة التي عبرت بها الشاعرة عن ذلك وقولها:
يا أيها المبنيُّ في شفتي
ماضرّ هدمك لو تحدثتَ
بلاغة تعبيرية نادرة بين ما هو كائن في الإدراك وبين ما هو ميت بالشعور، فالمبني مهدوم في آن زمني وله مسافة إلى ذلك وبين ما هو في الشفة لغة وما هو موجود في الكينونة والذات يقام الشعور في الإدراك بالكائن الحي ومسيره نحو الموت بينما تبرع الشاعرة في البيت الأخير بقولها:
هبني دمارًا بالغًا لغةً
عبستْ له أن جاءها الأعتى
برعت بتحريك الوجدان القائم في المكان وصورت المدرك التأملي للواقع بمفردة (لغة) على أنه وعي مرتحل بالمعنى إلى حيث الإدراك، وهذه فرادة تعبيرية ولغوية خالصة لا يأتي بها إلا المتمعن بحقائق اللغة ومجازاتها ومدلولاتها المتغيرة واتساع أفقها الرؤيوي التعبيري مجازاً ومدلولاً في الواقع ومن ذلك قول الشاعرة من قصيدة (اخرجي من دموعنا يا سماء):
عندما تهطلُ الصديقةُ حزنًا
تصبحُ الأرضُ دمعةً يا وفاءُ
إننا أصلُ كلِّ حزنٍ قديمٍ
كانَ مهما تبدلَ الانتماءُ
وطنُ الدمعةِ الذي يحتوينا
نحنُ أبناءُ حزنهِ الأوفياءُ
كلما غادر البحيرةَ طيرٌ
عاد منها وفي جناحيه ماءُ
ففي هذه الأبيات الشعرية الرائعة يقام حد المثول الشعوري بمدلوله الفكري في الذات ويقام استقصاء الحقائق من الذات، فالدمعة متسربة في العين يقابلها ذات دامعة، والشعور موحد بين الذاتين لكن الفرق أن الأولى ملقية وحياًًً للذات الأخرى والأخرى مستقبلة لهذا الوحي بمشاركة شعورية وبين الذاتين تقام الوحدة الروحية للإحساس والشعور كقول الشاعرة:
كلما غادر البحيرة طير
عاد منها وفي جناحيه ماءُ
وهذه قمة البلاغة الشعورية المتبادلة بين الذاتين يؤلفان معاً الذات الملقية وحيها والذات المستقبلة هذا الوحي مساحة للتأمل الروحي والشعور الوجداني ويؤلفان معاً كينونة مشتركة للإحساس ومن هنا ندرك أن الشاعرة ببلاغتها قد واءمت بين ما هو موجود في الكينونة وبين ما هو قائم في الذات، جعلت من الاشتراك الروحي مسافة للوجدان واختراقاً للإحساس وجعلت من المدلول بينهما مسافة أخرى تعبر من خلالها الروح إلى مشارف البوح.
** **
نبيل منصور نور الدين - ناقد وشاعر يمني