الشِّعْرُ نغَمٌ وإيقاعٌ وإلهامٌ وإبْداع، يُداعِبُ الحِسَّ
ويهُزُّ الوجْدان، ويُحلِّقُ بالمُتلقِّي مع جمالِ
الصّورةِ وسِعةِ الخَيالِ وقُوّةِ السّبْكِ وحُسْنِ
اخْتِيارِ المُفْرداتِ التي تُؤدِّي إلى المعْنَى
وسُمِّيَ الشِّعْرُ شِعْراً لارْتِباطِهِ بالأحاسيسِ
والمشاعِر، لأنّهُ يُترْجِمُ أحاسيسَ الشّاعِرِ إلى
مُفْرداتٍ ومشاعِرَهُ إلى عِباراتٍ تُصوّرُ تفاعلَهُ
مع موقِفٍ مُعيّنٍ يُعبّرُ بِهِ عمّا تجيشُ بِهِ
نفْسُهُ منْ تداعِياتٍ يُسجّلُها بمُفْرداتِه
ويُلوّنُها بألوانِه، ويقْتبِسُها من عميقِ
ثقافتِهِ وكثيرِ اطّلاعِهِ وغزيرِ معْرفته،
ويبُثُّها في مشاهدَ تتوالَى وصُورٍ تتنفّسُ
ومُفْرداتٍ تهْمس، يُكثِّفُ أطْيافَها ويُلوِّنُ
لوحاتِها ويخْتارُ لها من الأدواتِ الّلفْظِيّةِ
1
ما يتناسبُ مع موضوع القصيدة، ولا يلْجأُ
إلى عباراتٍ مُبْهمةٍ ولا يسْعَى وراء مُفْرداتٍ
غامضةٍ أو معانٍ لمْ يجْرِ بها اللسانُ العربي.
وتبْرُزُ قُدْرةُ الشّاعِرِ المُتمكّن في توْظيفِهِ
لِمخْزونِهِ من المُفْرداتِ والأمثلةِ والتّعابير
التي يُحْسِنْ رَصْفَها في بِناءِ نصِّهِ الشّعْري
وإحْكامِهِ واخْتِيار الأدواتِ الّلفْظيّةِ المناسِبة،
مثل صائغِ الجَوْهرِ الذي يُدْرِكُ بحِسِّهِ الفنّي
ومهارتِهِ موقِعَ كل لُؤْلُؤةٍ في العِقْدِ الذي
يُصيغُه، فيُخْرجُهُ بديع التّصميمِ لا تنافُرَ
في صِياغتِهِ ولا تشْويهاً في صِنْعتِه، والخطأُ
واردٌ عند بني الإنسان فلمْ يسلم منه ناثِرٌ أو
شاعر، ورحم الله الذهبي الذي قال:
(من وعى عقْلهُ عَلِمَ أنّه لا يسلم من أخْطاءٍ
ولا زلاّتٍ لا تقْدحُ في عِلْمِهِ ولا تحُطُّ من قدْرِهِ
ولا تنْقصُ منْزلتهُ، ومن حمل أخْطاء أهلِ
2
العِلْمِ والفَضْلِ على هذا السّبيلِ حُمِدتْ
طريقتُهُ وشُكِرَ مسْلكهُ، ووفِّقَ للصّواب) .(1)
ونُقّادُ الشِّعْرِ لهمْ صَوْلاتٌ في تِبْيانِ محاسِنِه
وجوْلاتٌ في نقْدِ ما في النّصوصِ منْ هَنات،
ومِنْ ضِمْنِ ما ورَدَ في نقْدِ الشِّعْر ما رواه
الأصمعيّ قال: (أنْشَدْتُ الرشيدَ أبْياتاَ للنابغة
الجَعْدي:
أشَمُّ طِوالُ الساعدينِ شَمَرْدلٌ
إذا لمْ يرُحْ للمجْدِ أصْبحَ غادِيا
فقال الرشيد: ويله ولِمَ لَمْ يُروّحْهُ للمجد؟
ألا قال: (إذا راحَ للمعْروفِ أصْبَحَ غادِيا)
فقُلْتُ: وأنتَ والله يا أميرَ المؤمنين أعلمُ
منه بالشّعْر). (2)
والرشيد رحمه الله جيّد المعْرفةِ بالشعر قال
لأبي نُواس: (لِمَ وَثَبَ بك أهل مصر؟ فقال:
لقولي:
فإنْ يكُ باقي إفْك فرعونَ فيكُمُ
فإنّ عصا موسَى بكفِّ خصيبِ
3
فقال الرّشيد: جعلت مُعْجزة موسَى لخصيب
ألا قلت:
فإنْ كان باقي إفْكَ فرعونَ فيكُمُ
فباقي عصا موسَى بِكفِّ خصيبِ
فقال والله يا أمير المؤمنين إنّك لأشْعرُ مني
ولمْ أفْطَنْ لذلك. (3)
ويُؤكِّدُ البلاغيونَ على ضرورةِ تأليفِ اللفْظِ
مع المعْنى، والتّدْقيقِ في اخْتِيار الألفاظِ
التي لا تكونُ ثقيلةً في السّمْعِ ولا نابِيةً في
الذّوْقِ ولا تحْتمِلُ تأْويلاً ولا تساؤلاً، وقد قيل
أنّ البلاغةَ لمْحةٌ دالّةٌ، وأنّها إصابةُ المعْنَى
بألفاظٍ واضِحةِ الدِّلالةِ، وهذا يُثْبِتُ أنّ
صِياغةَ الشّعْرِ تحْتاجُ لِرويّةٍ ومُعاودةِ النّظرِ
في النَصِّ، لأنه سيبْقَى شاهِداً على من قاله.
وما يقعُ فيه بعضُ الشّعراءِ منْ هَناتٍ
ما هو إلاّ لتسرُّعِهِمْ في إخْراجِ النَصِّ دون
تمعُّن، والشّعراءُ المُجيدونَ هُمْ منْ يترَوَّوْنَ
4
ويٌعيدونَ النّظَرَ في الصّياغةِ والمُفْردات
لِتَحْبيرِ أشعارهِم ْوتجْويدها قبل إذاعتها
ونشْرِها.
... ... ...
الهامش:
(1) شمس الدين الذهبي، سِيَرُ أعْلام النّبلاء، الجزء الأول، صفحة 376.
(2) أبوهلال العسكري، ديوان المعاني، الجزء الأول صفحة 36. والنابغة الجعديّ هو أبو ليلى قيس بن عدس الجعديّ العامريّ، وُلِدَ في الأفلاج جنوبي نجد، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأسلم وأنشده: بلغْنا السّماءَ مجدنا وجُدودنا وإنّا لنبْغي فوق ذلك مظْهَرَا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إلى أين يت أبا ليلي؟ فأجاب الجنّة، فدعا له النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(3) أبو هلال العسكري، ديوان المعاني، الجزء الأول، صفحة 36، وأبو نُواس هو الحسن بن هانئ الحكمي من أشهر شعراء الدولة العباسية. اشتهر بخمريّاته.
** **
- عبدالقادر كمال