د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لم يشأ «أمين معلوف 1949م -» أن يختار لكتابه (بدايات) اسمًا آخر مثل (جذور) مع أنه غاص في انتماءات أسرته؛ فالجذور في نظره «تتوارى في التربة وتتلوى في الوحل وتنمو في الظلمات»، ولو استوعبنا موقفَه لما تراكضنا على شَجَر الأنساب نَرويها ونُرويها، وقد نزرع أشجارَ غيرِنا في أفنيتنا، أما البدايات فيكفيها ما ظهر ولا يُهمُّها ما استتر.
** الحديث عن البدايات لا القَبَليات، ولعلها ظاهرةٌ مضيئةٌ أنًّ كُثُرًا فينا يحتفظون بذاكرةٍ عذراء لمن وعوهم ولما وعَوه، سواءٌ أكانوا شخوصًا أم نصوصًا؛ فالبداياتُ مبتدأ لا ينتظر الخبر، ومن ينسى المعلم الأَول والقراءات الأولى والمقال الأول والوظيفة الأولى وكذا السيارة والمنزل والصديق والطفل والسفر وسواهم وسواها.
** وبأمثلة عابرة فلن ينسى صاحبُكم معلمَه في الصف الأول الأستاذ حمد الفنيخ فقد احتواه طالبًا مستمعًا وأقنع والده - رحمهما الله - بعدم سحبه لكونه دون السن النظامية، وكيف ينسى قصة «المدينة المسحورة» التي استعارها من مكتبة المدرسة الفيصلية بعنيزة فقرأها أكثر من مرة وهو في الصف الرابع الابتدائي، وحين انتقل في الصف الخامس إلى حائل بحث عنها في مكتبة المدرسة العزيزية فأسف أن لم يجدها، وهل ينسى مقالاته القصيرة عن «الفيزياء ومكونات البروتون والنيوترون والإلكترون» في مجلة المركز الصيفي الذي يدين له بالفضل لأول جوائز بحثية، وللمعهد العلمي في أول جوائز تعليمية، ولو نسي أشياءَ فستبقى سيارته «الكورولا» في ذهنه بالرغم من اصطدام سيارة نفايات ضخمة بها في اليوم الأول لقيادتها، وكانت أولى محطات سفره الخارجي «نيويورك» فبقيت مشاهداته فيها صادمة.
** لأحاديث الذاكرة موعدٌ إن أذن الله في سيرة تفصيلية مؤمنًا بقيمة ما تُخلِّفه السِّيرُ إن استُقصيت المحطات من غير انتقاء واعتُمرت الشفافية دون غطاء، ولم يضرْه حين نشر «سيرة كرسي ثقافي» أن جاءت مسافاتُ الإخفاق أطول، وفرقٌ بين التجرد والتمدد، وبين بعث النور وحرق البخور.
** لكلٍ بداياتُه ولا قيمة للمندفعين والدافعين، ولن تغنيَ عنا كلماتُنا ولن تحميَنا لكماتُنا؛ فالموعد أُخروي، ولا فرق حينها بين من اختاروا الظل ومن اختارهم الظل، ومن نسُوا بداياتهم ومن أُنسوها، ومن جاؤوا إلى الواجهة الثقافية والإعلامية بثقة ذات ومن احتلُّوها دون سمات، وربما عثروا فأُقيلوا، وتقولوا فتأوّلوا، وتملقوا الجماهير فسارت في ركابهم، وفي الإطار نفسه يمضي الأكثرون دون لقب أو نشب فيَحيون في الظل ويغيبون فيه ولا يعلم عنهم الرثّاؤون، ولا تحتفظ بهم صفحات المواقع كما لا تستدعيهم سجلات الوقائع، ولا بأس ألا تُكتب بداياتُهم أو أن يُكتفى بشهودِ نهاياتهم.
** بين البدايات والنهايات يلهث «العمر»، وقد لا نجد وقتًا كي نستوفي «الذكر» غير أنهما شاهدا الحياة ورصيدا الممات.
** الأَلفُ تستهل والياء تستقلّ.