عبده الأسمري
الأماكن كخلايا الجسد تقيم في الأعماق.. وتستقيم في الآفاق.. وتبقى «الصورة الأولى» التي انطبعت في الذاكرة.. الملمح الأول الشاهد على العمر.. ولو عاد شريط الاستذكار لتعالت أصداء مسقط الرأس وموطن الطفولة؛ ليعلن الاحتلال لكل مساحات المشاهد المصورة المعبرة الأخرى.
المكان الأول المستوطن في الذاكرة هو التشكيل الأكمل الذي أكمل أضلاع السلوك المبتدئ، وامتثل لإيقاع المسلك البريء الذي نسج أولى لحظات التماثل الإنساني بين الطبع والطبيعة، وكتب أجمل معالم التواصل الذاتي بين التفكير والتدبير..
في كل الاتجاهات تأتي الأماكن لتكون حدثًا يرتب مواعيد الذاكرة، وحديثًا يشكل محافل المذكرات لتسمو بنا إلى حيث الوجود الأول، والوجود الأمثل على خارطة «العمر».
تمثل القرية الصورة الرمزية لعفوية «المشهد».. يقل فيها «عبث» التقنية، وينخفض وسطها «بث» العولمة.. يسيطر عليها الاخضرار الذي يأتي كالسكينة التي تغمر الأرواح، والطمأنينة التي تسكن الأنفس.. تعيش فيها «العصافير» باستدامة ومهام «شدو» لا يتوقف، و«مسارات» فرح تجعل الأسراب تتراقص طربًا تحت أمن الأجواء وأمان الأنحاء.. وتكتمل «اللوحة» التشكيلية ببيوت «القدماء» التي تشكل «صروح الانتماء في خطوطها وتجاعيدها الملونة التي تشبه وجوه أصحابها الساكنين في قلب «البراءة» الماكثين في قالب «النقاء».
وتشكِّل المدينة بُعدًا آخر، يحمل في زواياه «الحضارة»، ويشكل في مزاياه «المدنية»؛ فيبقى لكل مكان هيئته وهيبته وعالمه المحتفى به.
المكان الأول في محطات «الحياة» هو المشهد الأمثل في رسوخ «النظر»، والشاهد المستديم على رضوخ «الانتظار»؛ فتشكل «الصورة» في وجدان الإنسان ترميزًا إلى مواسم «الفرح» منذ الوهلة الأولى للتكامل بين السلوك والحس.. والترابط بين الشعور والتعبير في أيام الطفولة الأولى التي بدأ فيها الطفل يميز الوجوه، ويفرق بين الأماكن، ويرسل مطالبه إلى المحيط.. ثم تتشكل المسالك الحسية ما بين الأعين والأماكن والزمان في أول يوم دراسي، تعانقت فيه الأعين مع منظر المدرسة، والطلاب والكتاب والسبورة، وكل اتجاهات البصر.. ومرورًا بكل الأبعاد البصرية في محطات العمر التي ارتبطت بالمواقف أو الذكريات، سواء تلك المؤلمة أو المفرحة أو القابعة في المنطقة الرمادية بين قطبي الفرح والحزن.. وانتهاء بآخر صورة للأماكن يحفظها العقل قبل نزع الروح من الجسد.
يا تُرى مَن يتذكر صورة «المكان» الأول؟ وما مدى ارتباطه بين صدى الشعور ومدى الذاكرة؟.. من هذا المكان الماثل أمام محكمة «الاستذكار» انطلقت موجهات الشعور وتجليات المشاعر منذ الطفولة الأولى التي بدأ فيها «الحس الإنساني» و»الإحساس المكاني»، يرسم ملامح «المشاهد» في الذاكرة بكل تداعياتها وتبعاتها وأبعادها في أول أرصدة «خزينة» الذاكرة التي سيظل السحب منه متاحًا لا ينقطع إلا بغيبوبة مرض أو غياب عقل أو تغييب موت.
من الأماكن ذاتها تتجلى مشاهد الحنين، وتتكون ملامح التفاعل في صور مؤثرات وتأثيرات وتغيرات ومتغيرات تظل في حركة دائبة بين «مد» الرضا و«جزر» الندم، في حين تتداخل في بحر الحياة موجات الاقتناع بالسلوك أو الامتناع عن المسلك في هيئة «نضج» تصنعه محطات العمر، وقيمة «نهج» تبرمجه تجارب الزمن.
تحتضن الأماكن «الذكريات» في إطارات تعميق اللحظة أو اختزال الموقف أو تأجيل القرار أو توثيق الوقت.. فتتشكل الوجوه، وتتكون المواقف، وتكتمل المعاني؛ فيضاف إلى الرصيد الزمني أقوال جديدة وأفعال متجددة تحت سلطة «التذكر» وسلطنة «التفكر»؛ ليظل «النسيان» فعلاً مجردًا من الثبات سوى من إصرار ذاتي لا يلبث أن ينهزم أمام سطوة «الشعور».
تلك الأيام التي نعيش في فرضياتها وافتراضاتها ونتعايش مع أفراحها وأحزانها في ضوء «رضا» مريح أو «قنوط» مؤلم وفق التكيف مع الأقدار ستظل نقاطًا نرسم منها زوايا «التعامل»، ونمد بينها خطوط «التفاعل» ما بين مؤشرات وأسباب ونتائج، تظل «النفس» الإنسانية فيها متباينة بين «الشعور» و«الاستشعار» لتبنى ردات الفعل نحو المعطيات والعواقب في ظل عقل يفكر وقلب يتدبر وجوارح تؤسس «غرفة» عمليات السلوك.
بين صدى الأماكن ومدى الشعور جولات وصولات لا تتوقف في دروب الدنيا، وتبقى «الذاكرة» الخط الفاصل بين الاستفادة من التجارب والإفادة من المشارب لصناعة ميزان «الاستقرار» بالنهل من الماضي، والانتهال من الحاضر نحو صناعة المستقبل.