د. حسن بن فهد الهويمل
ولكني بَيْنَ بَيْنَ، وخير الأمور الوسط، لا إفْراطَ، ولا تَفْرِيط.
الراصد للأوضاع العربية، والإسلامية، والعالمية تلتبس عليه الأمور، لأن لكل (حدث) صُنَّاعه، ودوافِعَه، وأهدافَه، ونتائجَه، وأثره السلبي، أو الإيجابي على مصالح الأمم، ومصائرها.
المؤكّد أن وراء الأحداث مهندسين يرسمون خوارطها، ويحددون أمكنة تنفيذها، وأزمنته، ويختارون المنفذين الأقوياء، الأغبياء.
تلك قضايا أراها من المسلّمات، غير أن البعض يصف هذه الحال بالتشاؤم، والوقوع في أسر (نظرية المؤامرة). وما هي كذلك.
لقد عشت السياسة قبل ستين عاماً، بكل تقلباتها، ومفاجآتها، وعرفت الكثير من أحوالها، وتابعت كُتَّابها، ومذكرات صنَّاعها، الذين يتأسفون، ويتمنون استقبال ما استدبروا.
هناك سذاجات، وتصورات بعيدة كل البعد عمَّا وراء (الكواليس) يظن أصحابها أن الأحداث خبط عشواء، وأنها لا ترتبط بمدبر متربص ماكر، إنها نظرات متسطحة، وبلهاء.
الأحداث آيات، ونذر، لا بد أن تغني، وتنبه، وتحمل على المراجعة، وأخذ الحذر، والنفور إلى شواطئ السلامة.
نعم هناك متشائمون، ومتفائلون سلبيون، ومن ثم لا بد من تحويل الحالين إلى نظرات إيجابية، وذلك من مقتضيات الحياة السوية، ولكن:
- كيف يتأتى التفاؤل، وكل شيء ينذر بالخطر؟
كل متابع للأحداث، لا بد أن يستاء منها، ثم يحسبه الخَلِيُّ متشائماً.
أحسب أن أوضاع أمتنا لا تتيح أي فرصة للتفاؤل، وكتم الغيظ، لا لأن الأحداث أتت على الرَّطْبِ، واليابس، بل لأن القلوب ملئت أحقاداً، وغِلَّا، وتفرَّقت كلمتها أيدي سبأ، مثلما مُزِّقت أرضُها.
والمجالس، والهيئات العالمية أنشأتها قوى الاستكبار، والتسلّط، ووضعت أنظمتها لحماية الواقع، واستكمال التمزيق بنوعيه: الحسي، والمعنوي، تحفظه تلك المؤسسات، وتحميه أنظمتها. ومن حاول انتزاع بعض حقه حكمت عليه تلك الهيئات بالتعدي، واستعدت عليه قوى العالم. إنها سراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء.
كما أن الحدود الجغرافية بين الأقطار لم تكن مجرد منارات حجرية لتحديد الحدود، بل هي منارات للأفكار، والملل، والنحل، والطوائف، والمستويات الاقتصادية، والعادات، والتقاليد.
إذ لكل (قُطْر) مسلَّماته في مختلف وجوه الحياة، تختلف عمَّا عليه جيرانه، إنها تفرقة طويلة الأجل، مثبتة، ومحمية من قبل دول الاستكبار، بمعنى أبدية الحال، واستمرارية الأوضاع.
(ربيع الشؤم) وهاجس (الأممية) واستبدال السنان، باللسان، والتطرف أمور دُبِّر لها بليل، لتُفْسد ما بين الأخ، وأخيه. والزوج، وزوجه. إنه سلخ للشياه بعد ذبحها، إمعاناً في الإيذاء، وتشفياً بالتعذيب.
أحسب أن (التشاؤم) مشروع، وأن (التفاؤل) سذاجة، وبلاهة. ولكنه تشاؤم لا يبلغ حد القنوط، واليأس.
قلت ولما أزل أقول: غُرفة عمليات الكون كله في السماء، فالله المدبر، وله جنود السماوات والأرض، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، وكل فاعل ينفذ إرادة الله الكونية، وما يصيب الموحِّدين إن هو إلا ابتلاء، وتمحيص، وآيات، ونذر، لتغيير ما في النفوس. فالله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
العامة تقول: (إذا جَاءَتِ العلَّةُ من البطن فَمِنْ أيْنَ تَأتِي العَافِيَةُ..؟)
والمتنبي يقول:
(وَسِوى الرُّومِ خَلْفَ ظَهْرِكَ رُوْمُ
فَعَلَى أَيَّ جَانِبَيْكَ تَميْلُ)
والشاعر الشعبي المتألق (خلف بن هذال) يقول:
(مِنْ دُوْنِ صُهْيُونٍ بَذَّتنا صهايِنَّا).
داء الأمة من أبنائها الخونة لعروبتهم، وإسلامهم. عملاء جعلوا ولاءهم للأعاجم، ومهدوا الطريق لهم، ودعموا مشاريعهم التوسعية الطائفية، ليخرقوا سفينةً هم من ركابها.
إنها خيانة سيكتبها التاريخ بمداد من دم المظلومين، والمشرّدين، والمعوّقين. ستكتب مواطأتهم، ويسألون: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.
في النهاية نرى مشروعية التشاؤم، وقد لا نرى التفاؤل بمستواه.
وكيف يلام المتابع حين تَسْوَدُّ الحياة بوجهه، وتَسْتَحْكِمُ حلقات المشاكل من حوله.
إنها سنة التداول، والتدافع: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
دعونا نتخطى إسلامنا إلى الإيمان لنظفر بوعد الله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين}.
الله لا يخلف الوعد، والوعيد، والميعاد: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلا}.
ربنا هب لنا أمر رشد ينقذ الأمة، ويعيد لها عزها، وتمكينها.