د.ثمامة فيصل
تعد الصحافة السلطة الرابعة بعد السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية في النظام الجمهوري، وذلك لأن الصحافة -بصفتها غذاءً معرفياً يومياً لكل فرد من أفراد المجتمع- تقوم بدور ريادي ومحوري في تشكيل وجهات النظر وتوجيه الرأي العام وصياغة القرارات والمخططات وتغيير مجرى الأحداث.
وعلى هذا يترتب على الصحافيين أداءُ مسؤولياتهم بكل صدق وأمانة وحياد ونزاهة، دون اللجوء إلى التفنن في الإثارة والتشويق والتزييف والتلفيق؛ وإلا ستتحول الصحافة -لا محالة- إلى نقمة بدل أن تكون نعمة، وسيؤول بها الأمر إلى ما يُسمى «أزمة المصداقية الإعلامية» أو «تدني أخلاقيات الصحافة».
ومن المؤسف أن الصحافة اليوم - وبخاصة القنوات الأخبارية - في كثير من بلدان العالم في حالة يُرثَى لها، وأن وضعها يدل على انهيار القيم الصحفية والمثل الإعلامية. وكأنها قد أصبحت وسيلة طيعة لتنفيذ الخطط والأهداف السياسية، وطريقاً معبداً لتحقيق الطموحات التجارية.
ومن هذا النوع من الابتذال والانهيار الصحفي ما شهدته الهند في الأيام الأخيرة حين رفضت إحدى المؤسسات الإعلامية المحلية توظيف صحافية مسلمة لمجرد أنها أبدت رغبتها في ارتداء الحجاب أثناء مزاولة واجباتها الوظيفية، مع أنها كانت قد اجتازت جميع المراحل اللازمة للتوظيف بنجاح. ونتيجة لذلك، فاتت على الصحافية الشابة غزالة أحمد، التي أكملت دراستها العليا أخيراً في تخصص الإعلام بجامعة علي كراه الإسلامية العريقة هذه الفرصة لبدء حياتها المهنية، ولكنها لم تلزم الصمت، بل أزاحت اللثام عن هذا الحادث المؤلم، ورفعت صوتها ضده، فافتضح الأمر. فقالت غزالة بكل جرأة وصراحة في حسابها على تويتر: «أتشرف بطرح هذه القضية أمام الناس نيابة عن الكثيرين الذين تُكمَّم أفواهُهم وتُكبَت أصواتُهم».
ولا تتأسف غزالة على ضياع هذه الفرصة من بين يديها بقدر ما تتأسف على تفشي هذا التعصب الفاحش، وعلى هذه النزعة الطائفية التي ترزح تحتها الصحافة اليوم. وانتقدت غزالة هذا الموقف السلبي للصحافة قائلة إن المؤسسات الإعلامية، التي تُحدِثُ تأثيراً بالغاً في نفوس الناس، تنشر اليومَ أفكارها وآراءها التي ترتضيها لأغراض خاصة، وتتحاشى إجراء الحوار والنقاش حول موضوعات جذرية وقضايا جوهرية مهمة، الأمر الذي يخلق في المجتمع نوعاً من التنفر والكراهية ضد المسلمين.
أعتقد أن ما قالته غزالة في ملاحظتها الصريحة عن موقف المؤسسات الإعلامية لا يبعد عن الحقيقة كثيراً، فإن معظم الصحف والقنوات الأخبارية الهندية اليوم -لا كلها طبعاً- قد نسيت أو تناست هدف الصحافة ودورها المنشود المتمثّل في ترسيخ جذور الجمهورية، وتوطيد عرى المحبة والوئام بين الأنام، والاعتماد على المصادر الموثوق بها لنشر الأخبار، فإنها -وللأسف الشديد- تتجاهل هذه الأهداف السامية للصحافة وتضرب بها عرض الحائط، وبالتالي تنخر البنية الاجتماعية مثلما ينخر السوس الخشب، وتمزّق النسيج الاجتماعي لهذا البلد الذي يُعرَف منذ أزمنة ساحقة كنموذج «للوحدة في التنوّع» والانسجام الطائفي، وتَنشر كل غث وثمين، وتعتمد على الشائعات والخزعبلات التي تتقاذفها وتتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها «جامعة الواتساب».
لقد تدخلت المحكمة العليا للهند في هذا الأمر أخيراً، وأبدت قلقها حيال هذه القضية، وطالبت الحكومة بفرض نوع من «الرقابة الذاتية» على الصحافة الإلكترونية.
وأختم حديثي بما قاله الصحافي الهندي المرموق رَوِيشْ كُومَارْ الذي حاز على جائزة ماغساساي الدولية (Magsaysay Award) العام الماضي 2019م لخدماته الجليلة ومساعيه الدؤوبة من أجل تثبيت دعائم الصحافة البناءة الهادفة، وحقاً يُعدُّ رمزاً للرزانة والشفافية في الصحافة الهندية، فقال عقب استلامه الجائزة: «مع أنني أشعر بفرح غامر اليوم للفوز بهذه الجائزة، إلا أنني - في الوقت نفسه - أشعر بحزن عميق عندما أنظر إلى الوضع الراهن للمهنة التي أزاولها وأُمثلها».
** **
- أكاديمي وصحافي هندي