عبدالرحمن الحبيب
في عام 1977، انهار موظف حكومي يُدعى بن آرونسون بسبب قلة العمل أو بالتحديد عدم وجود ما يعمله رغم أنه يتقاضى راتباً ضخماً (6000 جنيه إسترليني شهريًا بقيمة اليوم). كان المسؤول عن عمل آرونسون قد قام سابقًا بمحاولتين فاشلتين لإقالته (آرونسون رفع دعوى قضائية بسبب الفصل التعسفي في المرتين) واضطر للاحتفاظ به مع الراتب الكبير دون أي شيء للقيام به.. فقد تم إزالة هاتفه، وقُطع بريده، وصدرت تعليمات للموظفين الآخرين بتجاهله إذا رأوه يتجول في المكتب. هذا ما كتبه جيمس سوزمان أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كامبريدج.
يبدو عمل آرونسون للبعض وظيفة الأحلام، لكن شاهدنا أثناء الحجر الصحي بسبب وباء كورونا كيف أن كافة الناس تذمروا من قلة العمل حتى أولئك الذين كنا نظن أنهم يكرهون العمل. سوزمان له دراسات ميدانية مع قبائل الصيادين وجامعي الثمار في ناميبيا وبوتسوانا وجنوب إفريقيا، أصدر كتاباً بعنوان «العمل: تاريخ كيف نقضي وقتنا»، يطرح فيه رؤية مغايرة لتاريخ البشرية من خلال منظور العمل، بداية مما قبل التاريخ إلى حاضرنا التكنولوجي، متحدياً بعضًا من أعمق افتراضاتنا حول من نحن.
يقول سوزمان: «العمل الذي نقوم به يحدد من نحن ويجلب لنا معنى، ويصوغ قيمنا، ويحدد وضعنا الاجتماعي ويفرض كيف نقضي معظم وقتنا ومع من نقضيه؟»؛ مستدركاً أن هذا لم يكن الحال دائمًا بالنسبة لـ95 في المائة من تاريخ جنسنا البشري، إذ كان للعمل أهمية مختلفة جذريًا.. نادراً ما عمل الصيادون وجامعو الثمار البرية أكثر من خمس عشرة ساعة في الأسبوع، مثل رجال قبائل جو/هانسي بجنوب إفريقيا الذين درسهم، كانوا يعيشون في نعيم: يعملون 15 ساعة فقط بالأسبوع ويتشاركون المؤن بالتساوي.. ربما عانى الصيادون من نقص الطعام أحياناً ولكنهم نادراً ما عانوا من نقص الوقت. ثم جاء «السقوط» بوصول الزراعة، لأنها جلبت معها مجتمعات هرمية، وعدم المساواة، والعمل الشاق، والعوز، والغذاء المحدود. كانت الميزة الزراعية الوحيدة، ولكن الحاسمة، هي أن المزارعين والرعاة كانوا قادرين على هزيمة الصيادين وتهجيرهم من الأرض في معظم أنحاء العالم.
الزراعة جلبت أيضًا تغييرًا في العقلية، وأصبحت حياة الإنسان أكثر صرامة.. فالزراعة هي الدافع الأكبر للتقويم: وقت للزراعة ووقت للحصاد، وصيانة دورية: إزالة الأعشاب الضارة، وحلب الأبقار وإصلاح الأسوار... وكان لا بد من تخزين الحبوب وأصبح أولئك الذين يسيطرون على المخازن هم النخبة. أدى ذلك إلى تطور الكتابة، حيث تم تداول الفائض وتخصيص حصص الإعاشة. كما قامت بعض المجتمعات الزراعية ببناء صروح ضخمة مثل الأهرامات. هذا، أيضًا، يتطلب مهنًا جديدة مثل عمال الحجارة والنجارين. مع مرور الوقت، تجمع البشر في البلدات والمدن، مما أدى أيضًا إلى خلق وظائف متخصصة مثل أصحاب المتاجر (إيكونيميست).
كيف أصبح العمل هو المبدأ التنظيمي المركزي لمجتمعاتنا؟ ما العواقب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لثقافة العمل؟ وما شكل العالم الذي يلعب فيه العمل دورًا أقل أهمية بكثير؟ كيف تغيرت أجسادنا وبيئاتنا وآراؤنا حول المساواة وإحساسنا بالوقت؟ ولماذا، في زمن الوفرة المادية، نعمل أكثر من أي وقت مضى.
يرسم سوزمان في كتابه التاريخ الطبيعي والثقافي للعمل، بدءًا من العصر البدائي مروراً بالعصر الحجري وحتى العصر الرقمي، بالاعتماد على العمل الميداني في التفاعل بين مجتمعات الصيادين والجمعيات والمجتمعات الزراعية البسيطة والعالم الصناعي، ودمج رؤى جديدة من علم الأحياء، والأخلاق، وعلم الوراثة، والأنثروبولوجيا الاجتماعية، والاقتصاد، والنظرية التطورية، متحدياً الطريقة التي نفكر بها في العمل اليوم الخاضعة لهيمنة الاقتصاديين والإداريين وأساتذة كلية إدارة الأعمال؛. طارحاً رؤية جديدة من منظور الأنثروبولوجيا.. وأخيراً يوضح لماذا قد تكون الأتمتة هي المفتاح لمستقبل أكثر استدامة.
يطرح الكتاب أن تطور المجتمعات ربما كان حتمياً، فالزراعة سمحت باستغلال مصادر الطاقة الحديثة (الفحم والنفط) مما ساعد على الثورة الصناعية التي أرسلت أغلب الزراعيين إلى المصانع كعمال.. والآن يتم نقل عديد من الوظائف الصناعية إلى قطاع الخدمات عبر الأتمتة التي زادت من كفاءة التصنيع ويكفيها القليل من العمال. صارت أدمغة البشر المعقدة تنفق كثيراً من الطاقة لمعالجة المعلومات، فالعقول البشرية بحاجة إلى بقائها نشطة، فعلى سبيل المثال الناس الآن يقومون بما كان يعد بالسابق عملاً (صيد السمك، البستنة، الخبز) كهوايات. فإذا كان الإنسان الأول منشغلاً بجمع الفاكهة والصيد لبضع ساعات باليوم، لتوفير الطعام والملجأ، فإن الزراعة والصناعة توفران للإنسان الحديث غذاءه ومتطلباته الرئيسية، لكن الناس خلقوا مهام ومتطلبات جديدة لأنفسهم مع البحث المستمر عن التحفيز والعمل والمشاركة لطرد الملل. يرى سوزمان أن صعود قطاع الخدمات هو وسيلة للناس لإبقاء أنفسهم مشغولين، على الرغم من أن عديدًا من الأفراد غير راضين عن العمل الذي يشعرون أنه لا معنى له، والنتيجة هي علاقة غير مرضية بين البشر ووظائفهم.
نظرة سوزمان لطبيعة عمل الإنسان الأول لا تخلو من رومانسية، مقابل نظرة تراجيدية لعمل الإنسان الحديث؛ إلا أن الإنسان الحديث أفضل حالاً من سابقه في الصحة والرخاء والتعلم، مما يجعل نظرية سوزمان هشة رغم الرؤية العميقة والمميزة للكتاب الذي يجعلك ترى تاريخ العمل من منظور آخر.