د. خالد عبدالله الخميس
هنالك قلة من المفكرين من يستحق لقب المؤسس عندما يقوم بتأسيس منهجية لمدرسة فكرية مستقلة، أما الكثرة الغالبة من المفكرين في وقتنا الراهن فهم على أهمية إنجازاتهم يظلون أتباع وتلاميذ لمؤسسين لمدارس تم بناؤها مسبقاً. في علم النفس الحديث مثلا، تجد أن أعداد مؤسسي المدارس النفسية يعدون على الأصابع كفرويد وواطسون وماسو وبياجيه، بينما أنصارهم وأتباعهم بالملايين، فعلماء النفس الحاليين ما هم إلا تبع لواحدة من تلك المدارس التي سبق تأسيسها كالتحليلية والإنسانية والسلوكية والمعرفية، ودورهم يتمركز في تطوير هذه المدرسة أو عمل مقارنة بين المدارس أو دمج منهجين لمدرستين للوصول إلى رؤية نفسية.
وفي الفنون التشكيلية تجد أن مؤسسي مدارسها لا تتجاوز عشرة مدارس؛ كالكلاسيكية، والتكعيبية، والسريالية والتجريدية. ولو أردت أن تصبح مفكرا مستقلاً في الفن التشكيلي فليس لك سوى أن تكون تابعا أو مطورا لمدرسة من المدارس التي سبق تأسيسها أو تعمل على الدمج بين مدرستين. وهكذا لو تأملت بقية العلوم القائمة على عدة منهجيات.
إن عصر المفكرين المؤسسين قد تراجع إلى حد كبير، ولم يبق إلا التمدد تأييد مدرسة أو نقدها أو إيجاد وصلة فكرية تجمع بين مدرستين أو دمجهما معا تحت إطار نظري موحد، وهذا ما يعرف الآن بدمج التخصصات Interdisciplinary وهي الموضة العلمية الجديدة، ومنهجية دمج التخصصات تعاكس منهجية الحفر في التخصص الواحد للتنقيب عن كشف جديد، إذ يقوم منهج دمج التخصصات في ربط عدة تخصصات لحل مشكلة معينة، كأن يدمج الفيزياء مع الأحياء ليكون الفيزياء الحيوية، أو دمج الوراثة مع علم النفس ليكون الوراثة النفسية والآن اتسعت رقعة الدمج لتشمل دمج أربع أو خمس تخصصات في كيان واحد.
من جانب آخر، لم تعد البشرية تحت رحمة عقول لأشخاص معينين نسميهم سلفا بالمفكرين والفلاسفة، فمن خلال مصانع المعرفة أصبحت المعرفة البشرية متاحة للجميع وتظل في تسارع دون احتكار ولا زالت تراكماتها تمشي علو قدم وساق وتحت أنظار العالم. إن العقل البشري يمكن الآن تصوره على أنه بمثابة كائن موحد تطورت فيه المعرفة منذ أمد، دون أن يعيق تطورها انسحاب مفكر أو عالم من الوسط العلمي. وبحق، فإن العقل البشري لا يتأثر بموت الأجساد كون الفكرة تورث من جيل إلى جيل وتتطور بشكل لا يتوقف.
كل ما أريد قوله، إن تبجيل الأشخاص وحصر العلم في أفراد أمر يقلل من احترامنا للعقل البشري ككائن مستقل، فلا لتبجيل عالم أو تعظيمه وتأليهه، ونعم لتكريمه واحترامه. يقال للعالم: شكراً لإنتاجك الذي أفاد البشرية، لكن تذكر أن كل ما قمت به من عمل هو سيقوم به غيرك، وأن ما قمت به لا يتعدى من إخراج الخبزة من تنورها، بعدما شارك في صنعها عشرات الخبازين الأسلاف، ولو لم تخرجها أنت فهنالك آلاف مؤلفة من البشر سيأتون بعدك ليخرجوها بدلا عنك.
إن هنالك من يبدأ بتأسيس بذرة علمية في مسار علمي جديد وهنالك من ينضجها وهنالك من يخرجها للعالم على طبق مذهب، فالأجهزة الذكية والذكاء الصناعي ما كانت لتخرج للبشرية إلا بعد تراكمات لعقول بشرية علمية امتد مداها لقرون عدة من الزمان، فشكراً لكل عالم أفاد البشرية الآن، والشكر موصول لأول فيلسوف فتح للبشرية أول مبادرات التفكير العلمي.