حمّاد السالمي
* فقد المجتمع الطائفي صبيحة يوم الاثنين قبل الفارط؛ نجمًا من ألمع نجومه، وعلمًا من أبرز أعلامه، وأبًا روحيًا للعديد من أبنائه. فقد وجهًا ووجيهًا هو الشيخ الرئيس: (نايف محمد سعيد أبو ظهير العصيمي) - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- هو الذي عاش لأكثر من تسعة عقود في الطائف، قضاها في خدمة وطنه ومجتمعه بكل تفانٍ وإخلاص ومثالية. تقاعد نايف النقاء والحب من الوظيفة وهو رئيس الفرع المالي بالمنطقة العسكرية، ولم يتقاعد من وظيفة خدمة محبيه وحوارييه حتى آخر يوم في حياته:
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره
كباقي ضياء الشمس حين تغيب
* جاء يوم الاثنين بلون السواد، مرًا بطعم العلقم. ما أصعب فراق المحبين الذين يتربعون على قلوب محبيهم. كان -رحمه الله - طيلة حياته مع كل طالب عون وحاجة. يتقدم الصفوف في الصلح والإصلاح، ويمثّل الطائف وأهلها في المحافل لا المجافل، ويخدم مجتمعه بكل حب واقتدار، فقد عرفناه مع فضلاء من أمثاله، يمثّلون همزة وصل لا تنفصم بين القيادات الإدارية وكافة أطياف المجتمع، فتُحل سلمًا على أيديهم معضلات ومشكلات ما كانت لتُحل لولا مكانة أهل الفضل عند المواطن والمسؤول. أما وقد رحل روح الطائف نايف، فمن بقي لهذا الدور الريادي الذي عرفته الطائف منذ عقود وعقود، وعرفته مدن كثيرة في بلادنا. دور أهلي أحبه أمراء المناطق والمحافظون وكافة القياديين، فحمدوه وشجعوه وشكروه، لأنه كان يدرأ عنهم الكثير من المنازعات والإشكالات التي تستنزف وقتهم، وتستغرق جهدهم، وتصرفهم عمّا هو أهم.
من بقي من الرواد الوجهاء الأعيان المتطوعين للحفاظ على شعرة معاوية؛ التي تربط المجتمع بكثير من الإدارات والمؤسسات؛ سواء في الطائف أو في المدن الأخرى؛ بعد أن رحل العديد من الأعيان والرواد، وكان آخرهم عين الطائف ورائدها (نايف العصيمي).. كان هذا الموضوع لبّ الحديث الهاتفي الذي دار بيني وبين أستاذنا الأديب الكبير الناشر: (عبد الرحمن بن فيصل المعمّر) وكنا - هو من الرياض وأنا من الطائف- نتحدث معزين أنفسنا في نايف، ومستذكرين أيامنا وليالينا معه في مجلسه اليومي بداره من بعد المغرب إلى منتصف الليل، المجلس الذي يُسمى (بشكة ومركاز) كما هو دارج على الألسنة في الطائف المأنوس ومكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة. فإذا كانت مفردة مركاز مجذرة في القاموس، إلا أن (بشكة) مما استحدث على ما يبدو، وترمز إلى لقاء وجلوس الجماعة مع بعضهم. أما وقد فقدنا صاحب المجلس والبشكة والمركاز؛ فيحق لنا التمثّل بقول لبيد بن ربيعة:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ
وَبَقِيتُ فِي نَسْلٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ
يَتَأَكَّلُونَ مَلامَةً وَمَجَانَةً
وَيُعَابُ قَائِلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغَبِ
* كان مركاز المرحوم نايف العصيمي؛ يجمع بين كافة أطياف المجتمع الطائفي حاضرته وباديته، ففيه الصغير والكبير، والمتعلِّم والأمي، وفيه التاجر والموظف، وفيه الأريب والأديب والشاعر والناشر والفنان، وفيه شيخ القبيلة وعمدة الحي، وفيه المسؤول والغني والفقير. والمركاز في جملته؛ يمثِّل إجماعًا على حب صاحبه، الذي يسعى في خدمة الناس بكل صدق وأمانة، ويُسدي النصح للمستنصح. اشتكى أحد رواد المركاز ذات ليلة من صديق عزيز له تغيَّر وتبدَّل، فظهرت عليه علامات الكِبر والتعالي، وأنه زاد فسبه وشتمه في السوق أمام الناس. قال نايف المعلم -رحمه الله: (لا عليك.. أخصرو.. ارمه ورا ظهرك فالحياة قصيرة.. اللي ما يعدك مكسب لا تعده راس مال). يا سلام..! كم من مثل هذا ليس له إلا (الخصران) والرمي وراء الظهر.
* عرفت الرئيس - وهذا لقب له ثلاثي الأبعاد؛ فهو رئيس الفرع المالي، ورئيس المجلس، ورئيس نادي عكاظ- عرفته قبل خمسين عامًا وهو على رأس العمل. وعرفت معه شقيقه العميد (علي) -رحمه الله- الذي توفاه الله وهو نائب مدير شرطة المنطقة الشمالية، وكان -رحمه الله - خلوقًا محبوبًا من كل من عرفه. في تلك الفترة التي بدأت فيها الطائف تأخذ مكانتها السياحية، بادر الفقيد نايف العصيمي بإنشاء وبناء (كازينو- حدائق نجمة) الشهيرة بطرف شارع الملك سعود. كانت فكرة غير مسبوقة لمشروع ترفيهي سياحي. ورأس بعدها إدارة نادي عكاظ الرياضي، ليأخذ مكانة متقدِّمة بين صفوف الأندية، ثم يبادر ابن الطائف الآخر المرحوم (خلف بن جماح الغامدي)، بتنظيم سيرك لـ(محمد الحلو وبناته الصغيرات) في ميدان قبالة مقر القشلة استمر عدة أيام، وهذا نشاط غير مألوف ولم تعرفه المملكة قبلها ولا بعدها. إن مآثر الفقيد لا تعد ولا تحصى، ومنها أنه ألَّف كتابًا سماه: (العرب البائدة.. العاربة.. المستعربة)، صدر في ثلاثة أجزاء عن النادي الأدبي أيام رئاستي له، وكنت ألح عليه في كتابة كتاب عن تاريخ الرياضة في الطائف، وذكر لي فيما بعد؛ أنه قطع شوطًا فيه، وأخبرني صديقه الأستاذ أحمد الحبشي؛ أنه كتب كتابًا ثالثًا عن (عوائل الطائف) ما زال مخطوطًا. عسى أن يتصدى أحد من أسرته لحفظ هذه الآثار المهمة، وطباعة الكتب المسوّدة.
* إن من ألطف وأجمل الصور التي تمثِّل الرئيس نايف ومركازه؛ ما كتبه الشاعر الغنائي ابن الطائف (يوسف رجب) -رحمه الله- ذات يوم قال:
احنا للفرح (مركاز)
عزاز عشنا، ونموت عزاز
وكل حارة لها صورة
واحنا للصور برواز
وربي اكرمنا بالريّس
كريم وعطوف و كويّس
ويحسب للخطاوي حساب
ويوزن أمره ويقيّس
يدوم الحب في حارتنا
وتعيش وتبقى يا ريّس
* نفقد بكل أسى وحرقة؛ من كان يتفقد محبيه فيتصل قائلاً: (يا هوه فينك.. تراك وحشتنا). و(وحشتنا) هذه؛ لازمة عصيمية جهنية فقط عنده وعند صديقنا الأستاذ: (مقبول بن فرج الجهني)، لا تُسمع إلا منهما. تبكي الطائف فقيدها: (الرّيّس نايف العصيمي)، الذي هو كل في واحد، والذي يصدق فيه قول الشاعر:
الناس منهم ألف كواحد
وواحد كالألف إن أمر عنى
* ألا.. ما أعظم مصابنا فيك يا ريّس، فالطائف كلها تبكيك:
وليست الرزية فقد مال
ولا فرس تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر
يحزن لموته خلق كثير
* أخيرًا.. هل نُحيي ذكر نايف النايف؛ برفع اسمه على شارع أو حديقة أو ميدان؛ فنبادل وفاءه بوفاء مستحق..؟