الهادي التليلي
لم يكن قرار مجلس الوزراء في اجتماعه المنعقد بوسائل الاتصال المرئي وبرئاسة خادم الحرمين الشريفين والقاضي بتأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية مجرد خبر عادي بل هو حدث تاريخي وتحقيق لحلم كبير لأمة تكلمت هذه اللغة، وناضلت أجيالها القدامى المؤسسون منهم والمحدثون في نحت كيان قواعدها وفي فرض حضورها الكوني أجيال ناضلت، وجاءت اللحظة التاريخية بتأسيس هذا الكيان الكوني لينصف تضحياتهم وجهودهم ويبني مستقبلاً أفضل لهذه اللغة والأجيال الناطقة بها فما هي قيمة هذا القرار، وما هي أهم مراحل نضالات المشتغلين على اللغة العربية، وما هي الانتظارات من هذا الحلم؟
قد تستطيع أوروبا مثلاً التوحد في كيان جيوسياسي عملاق، وقد تستطيع أن تسير في مسار اتحادها وهذا مشروع لها بحكم الاشتراك في الجغرافيا والنمط الليبرالي في النظم السياسية والاقتصادية، وقد تستطيع بلدان جنوب شرق آسيا التجمع في كيانات اقتصادية واعدة.. نعم.. ولكن شيئاً واحداً يستعصي عليهم جميعاً وعلى كل مفكريهم وفلاسفتهم ومنظريهم وسياسييهم هو الاتحاد في نفس اللغة.
فالعالم العربي الذي زيادة على التحامه الجغرافي يغبته العالم كله على اتحاده في نفس اللغة هذه اللغة العربية ذات المرجعية السامية، والتي يتكلمها أكثر من 467 مليون نسمة، وتعد اللغة الرابعة الأكثر انتشاراً من حيث عدد المستخدمين سواء في الواقع الفعلي أو الافتراضي اللغة العربية إحدى اللغات الست المعتمدة في منظمة الأمم المتحدة والتي يحتفي العالم بأسره بها من خلال اليوم العالمي للغة العربية 18 ديسمبر من كل عام منذ 1973إثر قرار أممي عدد 3190 والذي يقضي بضمها لنادي اللغات المعتمدة في المنظمة الأممية على إثر طلب رسمي تقدمت به المملكة العربية السعودية وشقيقتها المغرب خلال الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو، وفي الحقيقة وجود اللغة العربية كلغة رئيسية في الأمم المتحدة لم يكن بالأمر اليسير أو الهين بل كان سليل نضالات أجيال من الدبلوماسيين العرب والذين اعتمدوا التدرج في معركة فرض اللغة العربية حيث نجحوا في سنة 1954 وخلال الدورة التاسعة للأمم المتحدة في فرض إجازة الترجمة التحريرية للغة العربية على ألا يفوت 4000 صفحة في السنة الواحدة وبشرط آخر أن تدفع تكاليف الترجمة الدولة العربية التي طلبتها على أن تكون تلك الوثائق تخصها وعلى إثر هذا النجاح وبعد سنوات قليلة وتحديداً سنة 1960 نجحت الدبلوماسية العربية في استصدار قرار من اليونسكو يقضي بإجازة استخدام اللغة العربية في المؤتمرات الإقليمية المنعقدة في البلدان العربية شريطة تأمين الترجمة الفورية ولأن النجاح يفتح الباب أمام نجاح أكبر أفقاً وأكثر اتساعاً حيث وفي سنة 1968 استطاع جيش الدبلوماسية العربية وفي طليعتهم السعودية فرض اعتماد اللغة العربية تدريجياً كلغة عمل في المنظمة ويكون الانطلاق بترجمة وثائق العمل والمحاضرات في الحقيقة وللتاريخ فإن المسار النضالي للدبلوماسية العربية في نحت حضور اللغة العربية على صخرة منظمة الأمم المتحدة لم يكن هيناً بل كان جهداً شاقاً يعد تأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية انتصاراً لهم واعترافاً بجهودهم ورداً للاعتبار لما أنجزوه وتواصلاً وامتداداً لما حققوه لإبراز هذه اللغة العظيمة فتأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية هذا الكيان الذي سيعطي للغة العربية بعدها الكوني وإشعاعها العابر للعصور هو في الحقيقة سليل قراءة حكيمة وعميقة للتاريخ وتحديداً لتاريخ هذه اللغة.
فاللغة العربية والتي لو عدنا إلى التاريخ القديم نجد أنها لغة إنسانية بامتياز، حيث ساهمت الدعوة الإسلامية وتوسع خريطة الإسلام في توسع دائرة المتعاملين بها كما ساهمت عوالم التثاقف الحضاري والازدهار الاقتصادي والتجاري القديم في تأثير هذه اللغة على غيرها من اللغات في مختلف أرجاء العالم فاندمجت مفردات عربية في شتى اللغات كالكردية والأمازيغبة والأردية والماليزية والإندونيسية والهندية والألبانية والفارسية والتركية والهاوسا والسواحلية والتجرية والإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية وحتى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية..
اللغة العربية التي زيادة على كونها انتشرت في كل أرجاء المعمورة استوعبت مبدعين من نحويين وأدباء من كل الأعراق فكانت ولا تزال موطناً خصباً لإبداع المبدعين ولو عدنا إلى مراحل ازدهار علومها ونقصد بذلك بداية من القرن الثاني الهجري حيث قدمت للإنسانية أطروحات وبحوث بقيت إلى الآن اللسانيات الحديثة تلوكها ولكن بمسميات وأسماء معاصرة وغربية كما قدمت مدارس لغوية لعل أشهرها المدرسة الكوفية والبصرية وكانت مجال سجال بين علماء المدارس، واستطاع المشهد -آنذاك- تحويل اللغة إلى مجال خطاب يومي تقعيداً وجمعاً فهذا الخليل ابن أحمد الفراهيدي عالم البصرة وشيخ شيوخ لغتها يقعد الشعر في بحور حسب أوزانها، وهذا تلميذه سيبويه عمر عثمان الحارثي بالولاء والذي توفي في السن الرابعة والثلاثين من عمره دخل التاريخ بمؤلفه «الكتاب» والذي يعد مرجعاً لغوياً ترجم إلى كل لغات العالم، واستفادت منه مختلف جامعات المعمورة ولا يفوت الباحث كتاب المفصل للزمخشري والذي كان لابن يعيش النحوي شرحه بمجلدات أطلق عليها شرح المفصل، وإذا كان الثاني وهو شرح أنسى الذاكرة الإنسانية الأول من حيث الإبداع فإن كليهما من المراجع التأسيسية والتقعيدية للغة العربية كما أن الكسائي أبو الحسن الكوفي شيخ المدرسة الكوفية أسس لعلم اللغة العربية من خلال ربطها بالمصدر الملهم وهو القرآن الكريم وتعد كتبه «معاني القرآن» و»المصادر» و»الحروف» وغيرها من المؤلفات رصيداً تقعيدياً لبناء كيان علمي للغة العربية ولا ننسى من جيل المؤسسين أبو الأسود الدؤلي ويونس ابن حبيب وحماد ابن سلمة البصري وابن مالك صاحب الألفية الشهيرة في تعليم قواعد اللغة، وكل من ترك بصمة في التأسيس لعلم اللغة العربية وتفرعاته.
اللغة العربية تستحق منا كل هذا الحب وكل هذه الرعاية لذلك أفق انتظاراتنا من هذا الكيان الكوني لا حد لها ولعل أهم ما نتوقعه ولنا ثقة في أن الإنجاز سيكون بمستوى وعمق هذا القرار الذي سيسجل في الذاكرة والتاريخ..
أولاً: جمع نخبة وعلماء اللغة العربية وخبرائها عرباً ومستشرقين وتمكينهم من الوسائل والإمكانات المتطورة وفق خطة معمدة قصد تطوير البحث في مختلف المجالات الفكرية والعلمية المتصلة باللغة العربية.
ثانياً: بناء تحالفات أكاديمية مع مختلف المؤسسات العلمية المشابهة في مختلف أرجاء العالم قصد إثراء اللغة العربية والسهر على سلامة استعمالها وتجميع قدراتها وتطويرها كي تواكب مختلف العلوم الحديثة والمعاصرة.
ثالثاً: المساهمة في إحياء تراث هذه اللغة العظيمة بالبحث ونفض الغبار عن بعض المخطوطات المركونة في المتاحف العالمية والتعاقد قصد نشرها والإفادة منها على أوسع نطاق وإعادة طبع المصادر والمراجع التأسيسية والسهر على توزيعها.
رابعاً: تكوين إدارة فرعية خاصة بطبع المعاجم والموسوعات وترجمة المؤلفات الخاصة باللغة العربية.
خامساً: تركيز فروع للمجمع في عدد من دول العالم ذات الصدى الأكاديمي الواسع قصد تفعيل حضور اللغة العربية في المشهد العالمي على غرار مراكز اللغات الأخرى مثل مركز قوته الألماني وغيره.
سادساً: تنظيم ندوات دولية ومؤتمرات في مجالات علوم اللغة العربية.
سابعاً: تحفيز الأكاديميين والمبدعين على نشر تآليف عميقة حول اللغة العربية.
ثامناً: إصدار دوريات ومجلات محكمة تضم البحوث في مجال اللغة العربية.
تاسعاً: التشجيع على البحوث المقارنة بين اللغات وبناء جسر تواصل بين الشرق والغرب من خلال اللغة العربية.
عاشراً: تركيز إدارة فرعية لدمج اللغة العربية في جامعات وكليات عالمية لكسب أكثر طاقة لمستعملي هذه اللغة مع تركيز مسابقات عالمية في المجال.
هذه المقترحات والتي نرى أنها لن تفوت الساهرين على هذا الكيان المفخرة.
ونعتقد أنها ستحقق ما عجزت عنه بعض الكيانات المشابهة والتي ولقلة إمكاناتها أحياناً غرقت في المحلية والتقوقع على الذات ولضيق أفقها الإبداعي والاستراتيجي أحياناً أخرى تحولت إلى مراكز بحث مكرورة فالمملكة -والحمد لله- تتوفر على كل مقومات نجاح هذا المجمع العالمي الذي هو انتصار لأجيال ناضلت في سبيل نحت كيان لغة عربية له قواعده واستعمالاته المخصوصة، وحافظوا بذلك على حياتها في ظل تقاطع اللهجات المحلية وتثاقف الشعوب من خلال ورود لغات أخرى لمستعملين مجاورين لهذه الأسباب، ولغيرها سيكون المركز علامة أخرى في سجل حياة اللغة العربية.