د. صالح بن سعد اللحيدان
يميل جلة من المعاصرين من ذوي النظرة البعيدة إلى عمق الطرح في أساسيات قواعد التاريخ الاستقرائي والنقد الأدبي التحقيقي، كما هو شأن صديقنا (محمود شاكر) و(أحمد شاكر) و(مصطفى بن صادق الرافعي) و(إبراهيم بن عبدالرحمن التركي) و(عباس بن محمود العقاد) وكذا (عبدالوهاب أبو سليمان)، الذي يطالع لهؤلاء بشدة تأمُّل، وتجرد نظر، يعطيه هذا قاعدة جيدة أن التاريخ تجربة وحكمة ومثل، وخذ ما شئت من أي كتاب من هؤلاء القوم؛ فإنك واجد ديدن ابن قتيبة وابن رشيق والقشلقدني والسنحاوي والسهيلي، وهذا كله ينصب في أنهم في نسقهم اللغوي وتناولهم اللفظي من خلال كتبهم ينبشون زوايا عمق المعرفة التي نحتاج إليها في طرح قواعد الكتابة والتاريخ والنقد.
ومن هنا لعلي أبيّن بعضاً من ذلك من باب الاستقراء العام مما يحتاج إليه العلماء والمحققون في حالات كثيرة؛ إذ أن (من حفظ حجة على من لا يحفظ) ممثلاً: محمود شاكر وأحمد شاكر، ويقرب منهما قليلاً الرافعي، وإن كان من قبلهما يميلون كل الميل إلى دقة العبارة، والحرص كله على ضبط الآثار، وسلامة اللغة، فجاءت آثارهما ذات ميل جيد نحو: التقعيد للآثار والمرويات مع شيء جيد من حيثيات النقد. (والرافعي والتركي) من ذوي القوة في الطرح، ويغلب على الرافعي القوة في النقد، لكنه أثرى اللغة والأدب والنقد، بينما يميل التركي إلى سلاسة الأسلوب مع قوة المعنى المراد. والمعنى المراد هو ما ينشده القارئ. وكثيراً ما يضرب التركي الأمثال. (والعقاد) يذهب في كتاباته مذهب التحليل الجيد مع قوة في النقد، ورؤية واضحة في النيل من أعداء كبار العلماء من الصحابة، وأسلوبه ذو صبغة عالية وأدبية وعلمية ونفسية، لا يكاد يُستغنى عنهما. (وأبو سلمان) ينحو نحو البحث الاستقرائي. والبحث الاستقرائي هو المنشود. ولو أن (أبا سليمان) تحقق من الآثار، وضبط سندها، ودقق في متون الآثار وأحوال الرواة لكان هذا حسناً جدًّا. ولعل ما دوّنه (الرافعي والتركي) وبعض أطروحات محمد بن حسن بن عواد، وكذا عبدالعزيز الرفاعي وضياء الدين رجب، يفي بغرض جيد في مسلك النقد العام، ولاسيما وصف العبارات الموحية لضرورة توجُّه (النقد) إلى تقويم العمل والأعمال.
والتاريخ واحد من العلوم ذات الصلة المهمة جداً بصدق التحري والتثبت، وهذا لا يكون ملمًّا يصح السند ويثبت ويُجود (بضم الياء)؛ ولهذا خسر كثيراً (جرجي زيدان) في كل - لا بعض - ما طرحه من (روايات إسلامية). وكذا الحال مع (حيدر حيدر) و(توفيق الحكيم) في كتابه عن (حياة محمد) - صلى الله عليه وسلم -.
والرائد لا يكذب قومه؛ فلو أن كل مؤرخ وكاتب عن السيرة أو السير والأخبار إلى عام (750) من الهجرة المباركة.. لو أن كل مؤرخ وكاتب ومحقق عاد إلى مثل:
1/ تهذيب الكمال في أسماء الرجال/ للمزي.
2/ عمدة القارئ/ للعيني.
3/الكاشف/ للذهبي.
4/ الرفع والتكميل/ للكنوي.
5/ المبسوط/ للسرسخي.
6/ مقدمة صحيح مسلم/ لمسلم.
لأدرك كلٌّ حينئذ كم هو أمر لازم نقل الخبر والرواية والسيرة بضرورة معرفة سند ورواة كل رواية وخبر وقصة وحادثة وواقعة. ولو أن أحداً ذكر عن أحدٍ ما شيئاً لم يفعله أو لم يقله أبداً لأقام عليه دعوى، وسوف يكسبها مع رد الاعتبار، ولا جدال على كل حال.
من أجل ذلك أرى ضرورة إثبات السند في كتابتها أو ذكرها أو الإشارة إليها. ويكفي (تهذيب الكمال) مثلاً. ولقد يذكر بعض طلاب (الجامعات) أن بعض المحاضرات يُورد فيها ويرد آثار وروايات لم تؤصل ولم يتم إسنادها، ثم بعد بحثها والتحقيق فيها يجدون أنها: ضعيفة أو باطلة أو لا أصل لها؛ ولهذا ضعف العلم؛ لأن السند هو أصل العلم، وعليه يقوم.