فيصل خالد الخديدي
الفنان عبدالناصر غارم فنان تشكيلي سعودي من الجيل الثالث أو الرابع من أجيال التشكيليين في السعودية ولكنه يرى نفسه في غير هذه التصنيفات التي لاتعنيه كثيراً فأخذ يثب سريعاً بكل جسارة بين محطات مسيرته التشكيلية التي قاربت الثلاثين عاما، فمن قرية مفتاحة إلى جماعة شتا لحافة الجزية العربية لعروض في الخليج وأوروبا والولايات المتحدة، وحضور مميز لتجاربه في العديد من المتاحف بما في ذلك متحف مارتن غروبيوس باو والمتحف البريطاني وفيكتوريا وألبرت وفي بينالي فينيسيا وبينالي الشارقة وبينالي برلين... وغيرها كثير ليسطر سيرة ومسيرة فنان برتبة مقدم في الجيش اعتاد على السير حثيثاً بين حقول ألغام الممنوع والمسكوت عنه ليصل لأهدافه بدقة متناهية وهمة عالية لاتعرف الكلل، وحسن تخطيط لما كان وسيكون من قادم أعماله ومشاريعه، فهو فنان اعتاد على التفكير خارج الصندوق والتغريد في سرب مختلف عن بقية أسراب جنسه متكئاً على أرضية القارئ النهم وجذور المفكر المعتد بإرثه والناقد والمطور والمؤثر في مجتمعه، أثار كثير من علامات الاستفهام لأنه دائم التفكير ومحفز لمن حوله لمزيد من التفكير فلعبة الأسئلة خير محفز للتفكير...
حرية التفكير سقف لا حد له ولكن سقف حرية التعبير يضيق ويتسع حسب ثقافة ووعي المجتمع وتقبل الرأي المغاير والصوت الغير نمطي حتى وإن كان شجي وواقعي فملامسة الخطوط الحمراء وربما تجاوزها مقلق وغير معتاد، ومجرد التفكير في قدسية كثير من العادات التي تحولت إلى ثوابت مجتمعية لا أكثر وتعريضها للنقد والإزاحة لم يكن متاحاً في فترات سابقة ولكن مع الانفتاح على العالم وإعادة قراءة التاريخ بمنظور معاصر جعل من الممكن مناقشة القضايا الإنسانية والمجتمعية متجاوزة المحلية إلى العالمية ولعل دخول الانترنت كثورة معلوماتية اختصر على عبدالناصر غارم كثيرا من المسافات ليصل إلى كونية الفنان في قضاياه وعالميته في تقديم منجزه فمواكبته وجيله لثورة المعلومات من خلال دخول الانترنت يراه بداية التواصل مع العالم ومتابعة مستجداته من خلال نافذة حيوية أشبعت شيئا من نهمه في المعرفة والاطلاع . قدم عبدالناصر غارم نفسه في كثير من مشاريعه الفنية من خلال نقده لممارسات مجتمعية ومناقشة القضايا المحلية بوعي عالمي تجاوز تضاريس وجغرافية المكان إلى هموم وهاجس الإنسان، كما اهتم بقضايا البيئة فعزل نفسه لساعات في مغلف شفاف من النايلو مع نقيضه الذي ينتقد وجوده كدخيل ضار على بيئة المكان من خلال مشروع (فلورا وفونا) والذي قدم نقدا صادما لوجود نوع من الأشجار المستوردة غير الملائمة بل ضارة لطبيعة المكان والبيئة، ومن المشاريع التي قدمت اهتماما بقضايا البيئة والمحافظة على طبيعة المكان البيئية والسكانية يأتي مشروع (منزوع) والذي قدم من خلال وسائط متعددة بين صور فوتوغرافية وفيديو وأداء حركي انتقاداً للتوسع الصناعي على حساب الإنسان وطبيعته المكانية والبشرية، كما قدم مشروعه (تحويلة) والذي في ظاهره يلفت النظر لعدم إهمال الاهتمام بالبيئة وتطوير إنسانيتنا وطموحاتنا وسط التنمية التي نعيشها في الفترة الحالية، وذهب لأبعد من ذلك في تقديمه لعمل (ممنوع دخول غير المسلمين) والذي قال عنه إن مهمته في هذا العمل هي نقل لوحة الطريق من مكانها في الطبيعة إلى صالة العرض ... كما كان له وجهة نظر في نقد البيروقراطية الإدارية من خلال تعطيل الأختام على الأوراق الرسمية والتي ظهرت في عمله (مجاز) ليتوسع في دائرة نقده لسلطة الأختام وتعطيلها لسرعة العصر وتقنياته، وكاستمرار في بحثه الفكري والتقني اعتمد في كثير من مشاريعه كنوع من التفرد على أحرف الأختام المطاطية اتي أصبحت بنية ومادة مكون الكثير من أعماله والتي يضمنها كثير من الشفرات والرسائل التي تعمل على دعم وتأكيد قضايا أعماله وجعل منها فسيفساء فكرية ولونية وجمالية في أعماله المنتجة مؤخراً، ومن أبرز أعمال الفنان عبدالناصر غارم والذي لقي رواجاً وحقق أعلى سعر لعمل فنان عربي على قيد الحياة في حينه عمل (رسالة رسول) والذي بيع في مزاد كريستيز دبي بـ”842500” دولار وعن فكرة العمل قال الفنان عبدالناصر غارم:” إن فكرة العمل تمثل ما كان عليه التنافس في مجال الإبداع بين الديانات وقد استلهمت الفكرة من قبة الصخرة التي أنشاها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 688 م مقابل ما تتمتع به كنيسة القيامة من جمال ما يعني أن الإسلام لا ينافي الإبداعات الإنسانية بقدر ما يمنحها حقها من المكانة والأهمية فأصبحت جزءا من البناء والعمارة الإسلامية وقد ظهرت القبة بحجم متميز يوازي فكرتها التي تمثلت في الرمز للقبة وللضوء القادم من فتحة في جانب من أعلاها يسقط على حمامة تستعد للطيران ويعني بها الفنان كما أشار إلى دور الإسلام في نشر السلام..) إن هذا العمل وغيره من الأعمال اللاحقة له فتح نافذة العالمية للفنان عبدالناصر غارم ولم يتوقف عند ذلك بل واصل مشاريعه وبحثه المستمر وهو يعيش في الفترة الحالية مع تجربة متقدمة بمعرضه الشخصي (الطاعة الذكية) الذي تستضيفه برلين من 12 سبتمبر إلى 1نوفمبر 2020م والذي يعرض فيه العديد من الأعمال أحرف الأختام المطاطية المثبتة على ألواح ألمنيوم في عرض جديد ومواكب لكثير من الأحداث العالمية ومعاناة الإنسان مع الحروب وبعبارات مباشرة أو ضمنية عن الحروب وما أورثته بعض السياسات من دمار وتزايد في عدد اللاجئين والمتضررين من الحروب ودمارها.
عبدالناصر غارم فنان مختلف عن غيره تسلح بالمعرفة وتزود بقضاياه المحلية ليصل بها للعالمية يعي جيداً مايريد أن يصل إليه وما يوصله من رسائل واثق من طرحه جاد في كل تفاصيل عمله يستحق بجدارة كل ماحقق وسيحقق من نجاحات.