عبد العزيز الصقعبي
الباب لم يغلق تمامًا، بقي مواربًا، باب خشبي كبير وقديم، يطل على شارع ترابي، هو لم يغلق لانتهاء مهمته، لا أحد يعبر من خلاله، ربما بعض الحشرات، ربما بعض القطط والكلاب الضالة، الباب يمارس الموت البطيء، تآكلت أطرفه، ولكن لم تصل له الأرضة بعد، هل يتحول إلى ذرات أشبه بالتراب، أم تنتشله يد لتعيد ألقه الذي كان قديماً.
نصف قرن أو أكثر عمره، هو يشعر أن عمره أكثر من ذلك، لا يدري في أي غابة نشأ وترعرع ليأتي اليوم الذي يرى فيه أنه تحول إلى جماد بعد أن كان نباتاً، لا يعرف هل فعلاً كان من ضمن غابة مليئة بالأشجار، أو في صحراء، نبت وأصبح شامخاً ليزدان بأعين النجارين وتجار الخشب.
يشعر أنه مر بثلاث مراحل، نبات ثم قطعة خشب وأخيراً باب، تمنى لو بقي كائناً حياً ينمو ويتشكل، يعرف إنه في يوم ما سيموت، والأشجار تموت واقفة، ولكن قد يكون ضمن شجرة معمرة، تعيش مئاب بل ربما آلاف السنين، ربما كان من شجرة زرعت منذ سنوات طويلة، ولكن لا يذكر مطلقاً حياته السابقة تلك، ولا ذلك التحول المؤلم من نبات إلى جماد يفتقد الحياة، ولا كيف أصبح بابًا، بكل تأكيد يعرف أنه ليس مصنوعًا من شجرة واحدة، بل أشجار عدة، جمعها نجار ما، لا يعرفه، وجعل مصيرها واحد، تعايشت وشعرت بعد انتهائه من عمله أنها أصبحت كتلة واحدة، وكان مصيرها أن تصبح بابًا خشبياً قديماً، ربما ذلك الخشب لا يصلح إلا أن يكون بابًا أو نافذة، ربما كان حظه أفضل بكونه بابًا، فماذا لوكان ضمن سقف بيت قديم، لأصبح نكرة، و وربما تحول إلى كومة حطب، ولكن حظه أنه باب، ويشعر أن هنالك فرصة للبقاء، وبالذات عندما يكون مسماه بابًا أثريًا، فهل يكون له حظ.
لكل باب حكاية، والأبواب حاضرة في الدنيا الفانية ودار الخلود، ولكن ذلك الباب لا يعرف أهميته، والفرق بين أن يكون مشرعاً أو مغلقاً، أو موارباً كحاله الآن، قد لا تكون ذاكرته تسعفه لأن يقول حكايته، ولكن يعرف أن مصيره ارتبط ببيت طيني قديم، في حي هجره أهله منذ سنوات طويلة، تهدمت أجزاء كثيرة من البيت وبقي شامخاً، شموخ تعيس، لأنه لا يعرف الفرق بينه وبين أبواب أخرى كان حظها أن تكون ضمن بيوت أثرية رعاها أصحابها فأصبحت تنبض بالحياة للأبد، ربما في زمن غابر كان من بين تلك الأبواب، لينتقل إلى ذلك البيت الطيني الوضيع، و يعيش بعض حياة، يشعر أنها إلى حد ما جميلة، ولكن لا يعرف إنه كان ضمن بيئة تعيسة، ليس بيتاً كبيراً بل صغير لأسرة قد لا تملك قوت يومها، غادرت تلك الأسرة ذلك البيت، وبقي بدون حياة بدون سكان، سنوات طويلة وهو على حال البين بين ليس مشرعاً ولا مغلقًا، في انتظار تنفيذ مشروع الإزالة، فزمن الطين ولَّى، والآن زمن الأسمنت المسلّح، زمن أبواب الحديد والألمنيوم والخشب الفاخر، يا للمأساة، حتى الخشب أصابته عدوى الطبقية، في هذا الزمن أصبحت الأبواب تدخل ضمن تصنيف الجيد والرديء، هذا الباب من أي نوع، حتماً ليس رديئاً، فلو كان كذلك، لما أصبح أشبه بحارس عندما يغلق، ليأمن سكان البيت على أنفسهم، لكن قد يكون جيداً في ذلك الزمن، وجودته تلك لم تشفع له ليغادر ذلك المكان لمكان أفضل وأحدث، بل بقي منسياً مثل بقايا الطين التي تحيط به من كل جانب، وحيث التراب الذي حجزه من الجانبين حتى الهواء بل الرياح لا تقدر على زحزحته من مكانه، باب قديم منسي لبيت طيني في حي قديم هجره أهله، ليست له حكاية، ولكن ربما كان شاهداً على حكايات كثيرة كانت حوله وتبحث عن كاتب يتذكرها إذا كان قد مر بذلك المكان في زمن غابر، أو يتخيلها، سيصف الأماكن بدقة ربما يتوقف عند ذلك الباب ويصف النقوش التي عليه، ولو كانت بسيطة، ربما كانت ملونة أو هي كذلك، فثمة ألوان باهتة على ذلك الباب، ربما ذلك الفنان الذي نقشها لم يكن محترفاً، ففقد الباب جاذبيته ولم يختره من يملك بيتاً جميلاً، ليباع ربما بمبلغ بخس ويصبح ضمن بيت طيني وضيع، لو أن الفنان أو ذلك النقّاش كان مبدعاً لبث فيه حياة أخرى أجمل، لينتظر الباب مصيره، قد يكون قريباً، لأن هنالك من خط على الجدار الذي يحيط به «للإزالة»، هل سيكون مصيره للدفن مع الطين تحت التراب أم إلى النار، ويتحول إلى رمد، هل هو مهيأ لأن يتغير عندما يؤخذ ليعاد تدويره، من الصعوبة أن يعرف مصيره، ولكن بكل تأكيد، أن ذلك الباب ذات يوم كانت تدب به الحياة.