د. إبراهيم بن محمد الشتوي
أتذكر أنني قرأت في أحد كتب تطوير الذات أيضاً أن المتحدث إذا رغب في أن يشارك في الحديث الدائر وليس لديه ما يقوله فيه، ويرغب في نقله إلى موضوع آخر فما عليه إلا أن يقول: «وعلى ذكر» ثم يذكر ما انتهى إليه الحديث الأول، ويبدأ بحديثه، وعندها لن ينتبه الحاضرون إلى الفرق بينهما، وإلى أنك نقلت الحديث إلى موضوع آخر لأن هذا يتطلب المقارنة بين الأول والأخير، والبحث في الفروق وهذا ما لا يحب الحاضرون الانشغال به، وبهذه التقنية يمكن أن يسحب الحديث أيضاً من الآخرين، ويقطع عليهم قولهم، بالقول: على ذكر المطاعم، أو ربما يكون أكثر اتصالاً بالقول الأول حتى يمكن تحويل الحديث من المتكلم الأصلي.
وقد ذكَّرني هذا بما يستعمل الشعراء في العصر القديم عندما يريدون أن ينتقلوا من الوقوف على الطلل إلى المديح فيقولون «عد عن ذا»، والتي يقال: إن زهيراً أول من ابتدعها في مدائحه.
أحياناً يحاول بعض الناس –وهم الدهاة- تحميل الكلام الفاضي بمحمولات خارج السياق، ربما تكون سياسية أو غيرها، فيتحول من كلام عادي إلى ثقيل، وذي أهمية، ربما ليس ذا أهمية على الإطلاق، وإنما أهمية بالنسبة للمتحدثين، خاصة وأن الكلام لا يبدو من ظاهره سوى عدم الأهمية، وهو ما يعني أن نقله من سياقه إلى سياق آخر، هو نقل مؤقت لا يلبث أن يعود إليه بعد ذلك، ما يلغي المحمولات الجديدة بوصفها طارئة، ولا تمت إلى الحديث الأصلي بصلة تصح التعلق بها.
وأياً ما يكن، فإن القدرة على تضمين الكلام معنى آخر سواء كان بعيداً أم قريباً، يجعله كلاماً حمال أوجه وقابلاً للتفسير المختلف، وهذا يعد من البلاغة، وهي مهارة متميزة، يتمكن المتكلم بها من جمع أكثر من معنى وسياق في وقت واحد تكون مفهومة لدى السامع. وهذا يكسب الحديث قيمة تتجاوز قيمته الأولى، ويدخله في سياق الأدب، وقد يجعله فناً قائماً بذاته، وهو ما يجعلنا نرى أن المتحدث بهذا «الكلام الفاضي» ينبغي أن يحرص على ألا يكثر من هذا النوع من القول في كلامه، وأن يجعله في سياقه، وألا يخرجه إلى سياق آخر لأن هذا يغير تصنيفه حتى ولو كان يعود بالنفع على المتكلم، لأنه لن يلبث أن يأخذ طبيعة الحديث الجاد، ويتسم بما يتسم به من عيوب، ويمنعه من تحقيق الأهداف المراد تحقيقها من هذا الكلام.
وقد يحدث بأن يحاول بعض المتلقين تحويل الحديث دون علم المتكلم إلى حديث آخر، بتحميله دلالات مختلفة، لم يقصدها المتحدث، وربما تكون خارج السياق رغبة إما بالاستخفاف به، أو بإدانته بما لا يدان به، أو باتخاذه طريقاً للقول والتعبير عما يختلج في النفس، وقد أشرت إلى ذلك في مقالاتي عن (أدب الحمقى)، فعلى المتكلم ألا يستجيب لمثل هذا الصرف، وأن يظهر الحياد التام حيال ما يمكن أن يحمل كلامه من حمولات لا صلة للقول بها للأسباب الآنفة الذكر.
وهذا يعني أن «الكلام الفاضي» هو الكلام الذي لا تتجاوز دلالته السياق الواحد، والمعنى الواحد الذي يقال فيه في المجلس، بغض النظر عن موضوع هذا الحديث الذي قد يكون علمياً كالذي يدور في مجالس الناس حول الأطعمة وفوائدها، أو الرياضة، أو الكتب والكتاب وأقوالهم إذا لم يتخذ الحديث طابعاً جاداً، وبعداً دلالياً آخر، كأن يكون الثناء على الكاتب لأنه من اتجاه المتحدث أو لأنه من قبيلته، أو مدينته، أو صاحبه، أو أن الكتاب المذكور قد طبع بمطبعته وغير ذلك من الأبعاد التي تخرج الكلام من حيز «الكلام الفاضي»، أو أن يكون عميقاً ذا بعد علمي تفصيلي ذي قيمة بنفسه، فيعد من الأنواع الأولى التي لا ينبغي أن تملأ بها المجالس أو تنثر بين الناس.
ويعني أيضًا أن انصراف الناس إلى تحميل كلامهم محمولات أخرى لا يحمد في هذه المواضع، ولو أدى غرضاً في نفوسنا، ولا يعد من هذا النوع من الكلام المرغوب في هذه الحالات، والمتصف بهذه الصفات.
ونخلص من هذا أننا نبحث عن كلام تملأ به المجالس، ينشغل الناس به، وينجذبون إليه، وقد يستفيدون منه، دون أن يبعث الخصام، أو أن يكون قائماً على النميمة، أو أن يكون علمياً نفيساً يؤدي إلى بخس المتكلم حقه، وهذا الصفات تجعله عزيز المطلب صعب المراس، فناً من القول لا يختلف عن سائر الفنون، وإن بدا من ظاهره غير ذلك.