سهام القحطاني
«أضعنا من أعمارنا وأعمار آبائنا وأجدادنا سنوات لم نقل فيها ما نؤمن به،»
خالد الملك
رئيس تحرير صحيفة الجزيرة
في مقاله «الكلام المتاح» تحدث الأستاذ خالد المالك عن ارتباطات الواقعية السياسية بالصراع العربي - الإسرائيلي، ولعل ما يميز هذا المقال الكشف عن تغير الإطار الفكري للعقل السياسي العربي وخروجه من عنق زجاجة الفكر القومي العربي إلى الفكر الأممي، وهو تغير لا يتجلى فقط في حركة التطبيع العربي -الإسرائيلي بل يتمثل في ظهور جيل عربي جديد من صناع القرار السياسي والثقافي، وذهنية شعبية كسرت التابو وتحررت من الفكر القومي، وأصبحت تؤمن بضرورة مراجعة جذريات الخطاب السياسي العربي من 48 حتى اليوم.
قلت في مقال الأسبوع الماضي إن الصراع العربي -العربي بدأ بعد هزيمة العرب في حرب 48 في صمت، ثم جاءت هزيمة 67 محدثة ليتحول الصمت إلى أنين ونحيب أمام «مبكى انكسارات الهزيمة»، وبعدها اتفاقية السلام المصري -الإسرائيلي التي أحدثت فرقة أيديولوجية بين العرب.
ونلاحظ غالبًا أن الصراع العربي -العربي منشأه «فلسطين» الأرض والقضية من 48 حتى اليوم، لأن فلسطين كانت الأيقونة الأكثر وضوحًا في مفهوم خط الاستواء الذي سعى إليه الفكر القومي العربي لإحاطة العالم العربي بسوره ورمزية العروة الوثقى التي تحولت إلى مُعادِل للعروبة، رمزية هيمنت زمنًا طويلاً على الذهنية الشعبية والعقيدة السياسية للعرب.
ومع هذه الأيقونة تشكَّلت ثنائية قائمة على المشروطية الوجدانية «فلسطين وإسرائيل»، التي هيمنت على الواقعية السياسية العربية وحركة تلك الواقعية وارتداداتها.
فتحول إسرائيل إلى واقع جغرافي وسياسي في المنطقة العربية بعد 48 جعلتها مصدر قياس للانتماء إلى القومية العربية من عدمه، وهذا المصدر بدوره خلق لنا مصطلحي «الاعتراف والتطبيع» والذي أصبح المعيار الذي يُحرك مصدر قياس قومية العربي من عدمها.
فانتماؤك للقومية العربية يُقاس بإيمانك بالقضية مقابل إنكارك لواقعية إسرائيل، وهو انتماء لا يمكن اكتماله إلا بذلك التقابل رغم مخالفته للعقلانية التشخصية والواقعية.
وبذلك أصبحت إسرائيل في الفكر القومي المصدر الأهم لتقييم عروبة الأشخاص والسياسات والشعوب.
ولذلك لا يمكن فصل ثنائية فلسطين وإسرائيل عن جذور الفكر القومي العربي بأطرها ومفاهيمها.
وأدبيات هذا الفكر هي التي أسست الإطار التوصيفي لهذه الثنائية التي انبنت على وجدانية فاحشة الانفعال، عمياء الرؤية والرأي.
ثنائية مصدرها الحب للقضية مقابل الكره لإسرائيل، والانتماء للقومية العربية مقابل نبذ وإقصاء إسرائيل.
وأصبح الاعتراف بإسرائيل كواقع سياسي وجغرافي يعني إنكارًا لوجود القضية، وهو ارتباط غير صحيح؛ لأن عدم اعتراف العرب بإسرائيل لا يُلغي وجودها السياسي والجغرافي بصرف النظرعن شرعيته أو عدم شريعته بالنسبة للعرب لأنها دولة «تعترف بها أهم وأكبر دول العالم» -المالك-
كما أن إقامة علاقات عربية مع إسرائيل لا يعني إلغاء لوجود القضية بل يعني أن السلام قد يحقق مكتسبات لم تحققها المقاطعة، وهو ما يجعل حق الفلسطينيين حاضرًا بفاعلية على طاولة الحوار من خلال «العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل». -المالك-
والاتفاق العربي الإسرائيلي لا يعني بيع القضية بل إمكانية «بحث حلول تمنح الفلسطينيين حقوقهم، وبالحوار قد يتحقق للفلسطينيين ما كان عسيرًا وصعبًا وميؤوسًا منه على مدى سبعين عامًا». -المالك-
ثنائية قادت ذهننا الشعبي كما قادت عقيدتنا السياسية بوجدانية ساذجة حتى أصبحت «تابوا» لا يتجرأ أحد على نقد مسارها الذى تحول إلى تجارة رابحة تستغل العرب وجدانيًا و ماليًا.
وعندما يتجرأ أحد ليكسر ذلك التابو بثنائيته الوجدانية للمراجعة «كان التخوين في انتظار كل من يقول كلمة حق يرى فيها الطريق نحو إصلاح ما أفسده المتآمرون على فلسطين من فلسطينيين وعرب وعجم». -خالد المالك-
لكن الواقعية السياسية ومصالح الشعوب وتوازنات القوى لا تُدار بالوجدانيات بل بالحسابات العقلانية والفوائد المكتسبة، ففي السياسة لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل توافقات واتفاقيات تضمن أمن وسلام ورخاء الشعوب.
لقد استعمرت فكرة أن القضية الفلسطينية هي معادل لإسلام المرء وهويته التاريخية وقوميته العربية وجداننا وأدبياتنا سنوات طويلة، فما حصدنا سوى انكسارات الهزيمة وارتدادات الصراع.
لكن اليوم والعرب يقفون أمام تحديات من كل مكان حان الوقت لتغير معايير التفكير السياسي وتحريرها من الوجدانية الغاشية وفك ارتباطها مع عربة القومية والانفتاح على إمكانية الاندماج مع الواقعية السياسية وتطبيقاتها المختلفة.
تغيير أسقط التابو ومنح حرية القرارات والخيارات دون قيد «المصير المشترك» الكذبة الأكثر تداولاً في تطبيقات الفكر القومي العربي، وأصبح» الحديث متاحًا واستقلالية القرار بيد كل دولة عربية ولدى كل مواطن دون وصاية من أحد ومن غير خوف.. فكل منَّا لديه القوة والشجاعة للإعلان عنه». -المالك-
لقد أدرك الكثير من العرب الحكومات والشعوب أن الوجدانية السياسية والتاريخية التي حركت قرارهم السياسي سبعين عامًا لم تستطع إعادة المسلوب ولم تُحقق السلام، وإن الوقت قد حان لتبديل بطانة الفكر القومي العربي إلى فكر أممي وعقل سياسي بمواصفات النظام العالمي يقيس الواقع بحسابات منطقية وعقلانية ورهانات محسوبة المكتسبات والفوائد والمصالح، لا بالخطابات الرنانة التي تهزُ ولا تُسقط ثمرًا.