د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
ويعود الشاعر إلى مخاطبة ذلك الساري لينظر إلى جوانب خير في مسيرته وإن فاته المنتهز:
أَمْسُ انْقَضى، وَاليَوْمُ سانِحَة
وَغَدٌ بِهِ لِلْخَيْرِ مُزْدَلَفُ
هذا النظر الحكيم أن تنسى الماضي وينظر في يومه وما يتهيأ له، وأن يرى الغد يقربه للخير والفلاح، والسانحة اسم فاعل من الفعل (سنح)، قال الفيومي «سَنَحَ الشَّيْءُ يَسْنَحُ بِفَتْحَتَيْنِ سُنُوحًا سَهُلَ وَتَيَسَّرَ»(1). والمزدلف مصدر أو اسم مكان من الفعل (ازدلف) الذي «يَدُلُّ عَلَى انْدِفَاعٍ وَتَقَدُّمٍ فِي قُرْبٍ إِلَى شَيْءٍ. يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ ازْدَلَفَ الرَّجُلُ: تَقَدَّمَ»(2).
انظر إلى مواطن قوتك:
وَطِئَتْ خُطاكَ الشَّوْكَ مُحْتَفِيًا
ما غَرَّها لينٌ ولا شَظَفُ
وَجُبِلْتَ عِزًّا لا يَهونُ، بِهِ
يَعْلو العَلاءُ وَيَشْرُفُ الشَّرَفُ
استعار الشاعر الخطا للأقدام، وأنت تطأ الشوك حافيًا، و(محتفيًا) اسم فاعل من الفعل (احتفى) أي مشى حافيًا وهو مشترك لفظي فالمحتفي المكرِم، وإنما القوة في تحمل تلك المشاقّ وأنك لم تستهترك الحياة بجانبيها اللين الخافض أو ما فيه شدة وضيق.
ولم تكن تلك القوة إلا لما طبعت عليه عزة وكرامة لا ينالها هوان، بل هو عزّ يعلو العلاء نفسه به وينال الشرف به شرفًا، وهذا أمر لا يدانيه ما كان من بهرج تلك الحياة المجنونة.
ومن يتبصر أمر الحياة لا يعاند نظامها:
تِلْكَ الحَياةُ؛ سُرورُها خُلَسٌ
تَمْضي، وَجَزْلُ عَطائِها نُتَفُ
هذا شأن الحياة فلحظات الأنس فيها عمرها قصير وهي تنتزع، قال الصغاني «وخَلَسْتُ الشيء: إذا سَلَبتَه، والاسم: الخُلْسَة - بالضم -، يقال: الفرصَةُ خُلْسَة»(3). وما يهبه من خير قليل متقطع.
نعم هذه الحياة التي خبرتها ونالك من الندم ما نالك ولكن الآن ما جدوى الندم؟
كَمْ ذا أَسِفْتَ، وَكَمْ نَدِمْتَ لَها
الآنَ لا نَدَمٌ ولا أَسَفُ
فَلَقَدْ عَرَفْتَ قَديمَ عادَتِها
وَجَهِلْتَ أَنّى تُؤْكَلُ الكَتِفُ
إذن لا حاجة للاندفاع في طلب حياة إنما دانت لمن عرف كيف ينتهزها على الرغم من ضعفه وهوانه وجهله؛ لأن العقل المدبر لتلك الحياة مختل، وشقاؤك فيها لم ينل من عزة نفسك وسمو ذاتك فلا تحزن على ما فاتك من انتهاز للفرص فأنت عرفت أحوالها ولكن غاب عنك «من أين تؤكل الكتف»، وهذا قد يكون كناية عن الغفلة، ولكن المراد حقًّا أنك أعرضت عن انتهاز الفرص الذميمة فكأنك جهلت أنى تؤكل الكتف. قال الميداني « (إنَّهُ لَيَعْلَمُ مِنْ أيْنَ تُؤْكَلُ الكَتِفُ).ويروى (من حيث تؤكل الكتف). يضرب للرجل الداهي. قال بعضهم: تؤكل الكتف من أسفلها، ومن أعلى يشق عليك، ويقولون: تجري المَرَقَة بين لحم الكتف والعظم، فإذا أخذتها من أعلى جَرَت عليك المرقة وانصبَّتْ، وإذا أخذتها من أسفلها انْقَشَرَتْ عن عظمها وبقيت المرقة مكَانَها ثابِتَةً»(4).
وإلى هنا ينقضي الحديث عن قصيدة (خطوات على الأعراف).
... ... ...
(1) الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، 1: 291.
(2) ابن فارس، مقاييس اللغة، 3: 21.
(3) الصغاني، العباب الزاخر، 1: 94.
(4) الميداني، مجمع الأمثال، 1: 42.