ما بين كنداكة النيل وابن المقفع مسافة رواية اختصرت الزمان بصفحات قالت الكثير، وسكتت عن الكثير، وما بان منها رسم المشاهد الخفيّة فيما بين طيّاتها، وواضحًا جليًّا فيما بين السّطور. ما حدا بي الذهاب في هذا المنحى، هو الكلام الكثير الذي جرى على لسان الحيوانات، وهو أسلوب التورية، يلجأ إليه الكتّاب والمفكّرون خاصّة في ظروف الخوف على الحياة من الظلم الأعمى، الذي لا يرحم شيخًا طاعنًا، ولا امرأة، ولا طفلًا.
تنطيق الحيوانات على الورق ليس مستحيلًا، لأنّه مجال فسيح لانطلاق مخيال الكاتب بلا حدود، فيما بين المعقول واللامعقول، لإيصال رسالته الفكريّة والإصلاحيّة للفت أنظار مجتمعه لسوء يمشي بين ظهرانيهم، أو لخير بتوجيه أنظارهم إليه، أو تجديفًا معاديًا للقيم الاجتماعيّةِ والدينيّة، بما يمثّله من طابور فكري خامس.
بينما زمن المعجزات ولّى مع الأنبياء والرّسُل، ولغة الطير كانت لسيّدنا سليمان عليه السلام: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (16) سورة النمل.
ومن ذلك ما جرى في رواية (الباترا) من سيرة الفتى الذي أطلقوا عليه لقب واسم (الباترا)، وكان معاقًا حركيًّا ومصاب بحالة توحّد، ولسان ثقيل النّطق بالكلام، مع دمامة الخَلقة. هكذا جاء وصفه في الرواية.
ولكي تكون هذه الشخصيّة التي بناها الروائي (جمال الدين) درامية مُقنعة للقارئ ضمن تسلسل النسيج الروائي، نسب إليه الذكاء الفطري؛ فقد حفظ القرآن بالقراءات السبع سماعيًا من الأولاد المداومين في حلقات الشيخ الذي تبنّاه. كما اتّضح اكتسابه للعلوم التاريخيّة وغيرها من المعارف لدُنيًا، كأنّ الله صبها في جوفه ككتلة معلوماتيْة تراكميّة، دون أن يفهم منها (الباترا) شيئًا من تفصيلاتها، ولا مآلاتها العلميّة بعديد طرائقها.
ونظرًا للأفق السرديّ الواسع بتشّعباته عند الكاتب (جمال الدين)؛ فقد صرف لشخصيّة بطل روايته (الباترا) ثيمة الحكمة التي تعلّمها من الطير، خاصّة طائر (البومة –الحدأة، وهو نذير الشؤم المعروف، ففي المثل الشعبيّ يُقال: (اِلْلحَق البومة؛ تدُلّك على الخراب)، فهو يعيش في المناطق المهجورة، وهو كائن ليلي نائم نهارًا على الأغلب، وفي الرواية كان حكيمًا خلاف المعتاد والراسخ في المخيال الشعبيّ عنه، بينما بقيت سمة طائر الغراب الشؤومة والغدر.
تسلسل بناء شخصيّة البطل (الباترا) جاء مُتساوقًا مع البناء الطبيعي للقاعدة التي قام عليها السرد، بتدفّق منطقيّ، كل حلقة تقود القارئ وتسلمه للأخرى بأمان واطمئنان، إلى أنه لن يغادر الرواية تشتّتًا ومللًا، وللتدليل على تعميق مفهوم ذلك وتجذيره في الرواية؛ فقد ابتكر ثيمة أخرى للعنوان الرئيس (مخاوي الطير)، وكأنّ الكاتب يريد إقناعنا بحالة التوحّد الفريدة لبطله المُبتكر إِبداعيَّا من خلال تكريس فكرة المؤاخاة مع الطير، وتطابق شخصيّة البطل مع الطبيعة الجامدة بعين الآخرين، بينما البطل الذي انصرف عنه البشر كراهة ونبذًا؛ لذنْب لم يك له يدًا فيه؛ فقد فتح الأفق الكونيّ له؛ لتعويضه عمّا فتته من صدر أمّه وعطف أبيه؛ ليكون طفلًا سويًا مثيلًا لأقرانه، فأراد تعويض النقص عنده في هذا الفيض برمزيّه وأساطيره، الخارجة عن نطاق المعقول. ميّزة الكتابة الإبداعيّة أن تخرج من ثوب المألوف والمعتاد، إلى رحاب أوسع حتى تستطيع بوصفها إبداعية، فالأفكار المتشابهة في موضوعاتها المعهودة بنمطيّتها لا تصنع نصًّا مميّزًا متقدّمًا عمّا سواه، ربّما تنصب أعواد المشانق للكاتب كما حالة رواية (الباترا)، وتقديمه قربانًا من أجل من تأخر فهمه عن مرامي النصّ البعيدة والقريبة، أو حسد حاسد مُبغض.
* * *
وللجغرافيا منطقها الدكتاتوري في صناعة التاريخ؛ فقد صعّد الكاتب حدّة الصّراع الاجتماعيّ إلى الذروة، من خلال قطبي الرواية (الباترا+ العمدة)، الباترا تمثيل للأغلبيّة من البشر الذين لم يكونوا في نظر ذوي النّفوذ والجاه، إلّا أدوات وأعداد للإحصاء، وجنودًا يُساقون إلى ساحات النزاعات للحكّام والوجهاء، وعمدة القرية هو للوجه البغيض للسلطة المركزية في العاصمة، وفي الولاية، وهو مُتقلّب سياسيّا بطريقة انتهازيّة لتسويق مصالحة؛ فموقفه ثابت ودائم مع الأقوى، ومن هو في سدّة الحكم.
ففي ذروة احتدام الحدث السردي، يتأجّج الصّراع ما بين القديم والحديث، بين التاريخ والواقع الحالي، بين مملكة كوش العريقة، وقضيّة السدّ المنوي إقامته في المنطقة، فهو كما السدود في الأقطار الأخرى، كالسدّ العالي في مصر، وسدّ الفرات في سورية، جميعها غمرت مناطق جغرافية ذات إرث حضاري وتاريخيّ، ومحت تاريخ وذكريات شعوب تلك المناطق، وفي هذا الصدد كتب الروائي السوري (د. عبدالسلام العجيلي) رحمه الله روايته (المغمورون)، عالجت هذه القضيّة الإنسانيّة الكبيرة، وتتساوق مع رواية (الباترا) في هذه الجزئية الهامّة.
الكنداكة تتماثل مع نساء القرية، والعمدة بجبروته وبطشة وقوة شكيمته، يريد إغواء الجماهير في قبول إنشاء السدّ تماشيًا مع رغبات مخططي الدولة المستفيدين الفاسدين المستغلين لموارد البلاد، وهي رؤية الكاتب الواعية والتنبيه لحفظ التراث الإنساني، مقابل مشاريع لا تدرّ مردودًا ذا فائدة تذكر على المكان، الذي يفتقر لأبسط قواعد العيش الكريم والخدمات.
بذكاء أيقظ الروائي شخصية (حميدة) ابن أخ العمدة الثائرة للدفاع عن القرية، الأمر الذي أغصب العمدة، وبمهارة الكاتب استطاع عرض المادة التاريخيّة الجافّة بسلاسة، من خلال النسيج السردي للرواية، بطريقة مُشوّقة، من خلال التسجيل الذي قامت به الباحثة الأجنبية (سارا) واعتمدت على معلومات حصلت عليها من (الباترا)، وبسقوط العمدة صريعًا، يعادل في الانقلاب العسكري الإنقاذي، والذي انقلب معه العمدة على العهد البائد. (حميدة) شخصية ثائرة واعية جريئة، تكلمت بلسان الجماهير، الأقرب في سلوكها لسلوك القطيع.
* * *
للمتتبع تفاصيل رواية (الباترا)، لا بد له من التوقف منذ الصفحات الأولى على رمزية شخصيتين قام عليهما بناء الرواية السردي (العمدة والباترا)؛ وبالتحليل لهما تتبيّن رسالة الرواية بجلاء، وتصنيفها بأنها وثيقة اجتماعية، سجّلت يصدق فطريّ الحياة الاجتماعية في قرية (مرو) الصغيرة في مجاهل أرياف السودان المترامية الأطراف، وتباعد جغرافيّ مهول، وتراخي سلطة الدولة؛ والعمدة الإقطاعي والوجيه الاجتماعي، يمثّل الوجه البغيض للنظام وأزلامه، حينما يتجاوزن على حقوق البشر، يحرقون الدستور والقانون، ولا أحد يسائلهم، فالعمدة اغتصب البنت التي رمز لها الكاتب باسم (دولة)، المزاوجة في تركيب،وتشكيل المفاهيم لدى القارئ، كانت حرفة الكاتب (جمال الدين) في خدعة لتوريط القارئ في النص الروائي، وليجعل منه جزءًا سرديًّا يدافع عن فكرة الكاتب.
أما الشخصيّة الإشكالية الأخرى (الباترا)، لا أدري ما الذي قادني إلى القصص القرآني، وفي قصة سيدنا موسى عليه السلام، كيف قذفته أمه في البحر بعدما وضعته في صندوق، فعلت ذلك مخالفة دافع الأمومة، ولم يكن ذلك إلا وحيًا إلهيًا؛ لتنجية موسى، ولتكون الفرعون على يدي هذا الطفل، الذي تكلؤه عين العناية الربانيّة وهو النبي المنتظر، رغم تربيته في بيت الفرعون.
وهذا (الباترا) الذي تشابهت حالته مع سيدنا موسى، مع اختلاف بشريته وهو الطفل المجهول النسب وقد ربّاه شيخ الجامع العقيم، أمّه (الدولة) المغتصبة من العمدة المتغطرس، لم تحتمل العيش، إلا بالهروب إلى المجهول؛ للنجاة من العار. وهي تتأمّل وجه طفلها بقلب الأمّ، ودموعها تحكي لها أن لا ترى وجهه ثانية، ولن يبتسم لها. والعامل المشترك ما بين الباترا وسيدنا موسى عليه السلام، هو بداية نهج جديد ، وحياة جديدة في إنهاء الفرعون والعمدة.
الديكتاتوريات إشكالية جماعية، شرقية الميزات والمواصفات، تتّحد تغوّلًا على حقوق الإنسان، ولا تستطيع هذه الدكتاتوريات إخفاء معالمها وإن تلفّعت بملاءة قومية أو دينية أو حزبية أممية، فهي تتشارك النهج القمعي للحريّات العامّة، وحالات الطوارئ العامّة وقوانين الأحكام العرفيّة تحت ذرائع شتّى لا مبرّر لها، سوى تنويم القوانين في متاحف النسيان، وغياب المساءلة، واغتصاب ونهب ثروات دولهم وشعوبهم. بهذا تكون اتّضحت رسالة رواية (الباترا) في مقاومة الظلم، من خلال رسمها للوحة فسيفسائيّة للمجتمع السوداني، تتمائل في نهجها مع العديد مع الكتابات الروائيّة التي سارت في هذا المنحى على السّاحة العربية عمومًا، وغير العربيّة.
** **
محمد فتحي المقداد - عمّان - الأردنّ