نحو القرن السادس العشر الميلادي تأخذ بأيدينا سارة بكويل وإلى أوروبا وفرنسا بالتحديد في قرن الانقسامات الدينية، والحرب الأهلية، والعنف المتجمل بالقداسة الدينية، إلى قرن انتشر خلال سنواته الطاعون هنا وهناك، وفي ظل كل هذا العوامل كيف كان لميشيل دي مونتاني أحد نبلاء ذلك العصر، القاضي وعمدة بودرو، ومستشار الملك، والذي عاش ما بين 1533م وَ1592م أن يقف موقف الحياد ويتأقلم مع البؤس وأن يستمتع بحياته في ظل كل هذا الجنون والعنف الذي اكتسح فرنسا وأضعفها على جميع الأصعدة. كيف ألف كتاب المقالات التي عرض من خلالها تفاصيل حياته الدقيقة ومواقفه من كل ما جرى حوله؛ وبالتالي علم قُراءَهُ كيف تعاش الحياة. ومن خلال عشرين نصيحة وعشرين فصل تستعرض سارة بكويل بذكاء ممتع مسيرة حياته، واصفة الحروب والأماكن، الصراعات السياسية، والدينية، حتى أفكار الأشخاص ومواقفهم تجاه مونتاني وطريقته في عيش حياته وطريقة كتابته التي لم يسبقه إليها أحد، فلم يكتب مذكراته لغرض التفاخر بإنجازاته على طريقة كتَّاب زمانه، ولكن كتب التفاصيل العادية والتي قد يراها البعض هامشية، كتب عن كل تساؤل أو فكرة تخطر في باله، وفي ذلك العصر ماذا يعني أن تكتب تفاصيل حياتك ومشاعرك ويومياتك وتعرضها للناس؟ فهذا النوع من الكتابة لم يكن معهوداً في ذلك القرن من الزمان. ومن خلال هذه المقالات التي بلغت مئة وسبعة وكتبها على امتداد عشرين عاماً تستنبط سارة بكويل الأجوبة المناسبة لسؤال واحد: كيف تعاش الحياة؟
كانت أكبر مخاوف مونتاني هي خوفه من الموت لحد الوسواس المرضي لكثرة قراءته لما كتبه الفلاسفة القدماء عن الموت والذي لخص شيشرون مبدأهم بقوله «أن يتفلسف المرء يعني أن يعرف كيف يموت». واستمر خوفه هذا واستحضاره للموت في كل أوقاته حتى بلغ السادسة والثلاثين حين تعرض لحادث جعله في مواجهة مباشرة مع الموت وبعد إفاقته من هذا الحادث أدرك « أن المرء لا يلتقي بالموت إطلاقاً عند موته» و أدرك أن الحياة أصعب من الموت «فالحياة تستدعي انتباهاً لها وإدارة لشؤونها، وليس الاستسلام السلبي لها» وبذلك أصبح قوله لا تقلق من الموت هو أولى أجوبة سؤال كيف تعاش الحياة.
كان لهذا الحادث الأثر الأكبر في تحول شخصية مونتاني وأفكاره فقد كان دائماً ما يستدعي الأحاسيس التي ولّدها في داخله هذا الحادث ويتأمل في تفاصيلها ليقوى على التخلص تماماً من أوهام الخوف من الموت، فقرَّر أن يكتب تفاصيل هذه الأحاسيس والمشاعر لا ليتغلب عليها مباشرة وحسب وإنما ليفحص ويتأمل غرابة هذه الأوهام في أوقات فراغه، وهكذا وُلدت أولى مقالات كتاب المقالات. فتعلّم مونتاني أن الكتابة عن كل شيء، عن كل ما تشعر به يعد من أفضل التقنيات للحافظ على نوع من الدهشة الساذجة في كل لحظة من لحظات الحياة، تؤدي إلى مزيد من الانتباه لمشاعرك وتأملها، فالعقل غير المنشغل بشيء يجلب نزوات مجنونة ويخلق خيالات وأوهام قد تكون مدمرة، وبذلك كان الانتباه والتأمل هو ثاني الأجوبة.
كان مونتاني يهتم بالقراءة ويهتم بالكتب كما لو كانوا بشراً ويرحب بهم في عائلته ولكنه في نفس الوقت يقول «إذا لقيت صعوبة في القراءة، لا أقضم أظافري بسبب ذلك؛ بل أتركها جانباً. لا أفعل شيئاً من دون بهجة» فهذا ما نشأ عليه، مقاربة كل شيء في رقة وحرية من دون صرامة ولا إكراه. يقول «ما أفعله بسهولة وبشكل طبيعي لا أتمكن من فعله لو أمرت نفسي بفعله بصرامة. وهذه الصفة أكسبته الحكمة والروح المعتدلة التي تتخلص من الإسراف والتعصب اللذين سادا فرنسا في زمنه. فلا يستطيع أحد أن يجبره على فعل شيء أو أن ينحاز لطائفة دون الأخرى. وطالما اعترف مونتاني بعيوبه ومن أبرزها ذاكرته، إذ لا يمتلك ذاكرة قوية فيصف نفسه ويقول «لا يوجد أقل مني انشغالا ًبالحديث عن الذاكرة. لأني لا أكاد أدرك أثراً لها في نفسي» وهذا الاعتراف كان طعناً في مثال الخطابة والبلاغة والصفات التي كان يمجدها أهل ذلك الزمان ومن هذا يعلمنا مونتاني أن نتقبل ذواتنا وأن نخلق ذات مغايرة لما تريد أن تجبرنا عليه ثقافة الزمن والمجتمع، والاعتراف بهذه العيوب أكسب روحه التواضع، فيقول «اقرأ كثيراً، انس معظم ما قرأت، ولا تكن سريع البديهة. أي أن القراءة المكثفة يجب ألا تغويك وتجعلك دائماً تعتقد أنك على صواب، انس ما قرأت أي لا تتعصب لرأي من تقرأ لهم، هناك آراء ووجهات نظر مختلفة تحتمل الصواب، ولا تكن سريع البديهة، أي أمعن التفكير قبل إصدار أحكامك. وهذه أحد أجوبة سؤال كيف تعاش الحياة.
** **
- حسام رزيق