ما أقوى علاقة النسب! وما أعظم أثرها! تبنى عليها الأواصر، وتعلق عليها الأحكام؛ المواريث والنفقات والديات، وصلة الرحم من أجل العبادات، وأصلها موصول، وقاطعها مقطوع.
وإذا كانت تلك الأحكام الشرعية مترتبة بحسب القرب، ومتدرجة في الأقرب فالأقرب، فإن ما تفاضل فيه الناس هو الحفاظ على هذه الأواصر، وتعهد هذه الروابط، واستصحاب تلك القرابة، بالتحبب والتودد، بعد أن يمضي الآباء، وينقرض الجيل، وتتشعب الفروع، وتكبر الشجرة، هنالك تكون المحافظة سمة الأسرة الطيبة، وعنوان الخلال الحميدة، لما يتذكرون آباءهم وأجدادهم فيصلون من يصلهم، ويحبون من يحبهم، يرونهم في وجوه أبنائهم وأحفادهم، ويسمعونهم في نبراتهم، ويجدونهم في سماتهم وأخلاقهم.
لا يزال الفتى يذكر اليوم الذي يقدم فيه جده لأبيه إلى عنيزة زائرًا، فأول ما يبدأ به زيارة أختيه، لقد كان يجد المحبة تشع في وجوههما، وتنطق به كلماتهما، وهم يجلسون بعضهم إلى بعض، وقد أنافوا على الثمانين، في لقاء ودي أسري حار، وكأنه يرى جده، وهو بين أختيه، غير الشقيقتين، وأمهما، يدعوها أمَّه، ويتلطف إليها، وقد فقدت السمع، ولا تكاد تُسمع منها الكلمة، قد بلغت مائة وسنتين، وكاد رأسها يقع في حجرها من الكبر، فيجلس إليهن، ومعه المهفة (المروحة من الخوص)، فيهف عليها، ويلاطفها بالابتسامات لما انقطع التواصل بالكلام إلا بجهد جهيد.
أما زيارة والده لعمته فلا يكاد يغيب عن ذهنه منها شيء، أوقاتها، وأسبابها، والحديث الذي كان يدور فيها، حتى مكان مجلس والده وعمته، وحتى تواريخ تلك الزيارات عثر عليها بأخَرةٍ في مذكرات أبيه!
ظل أبناء عمة أبيه قريبين من نفسه، ورث مودتهم، واستبقى صلتهم، وإن مضى جده وعمته، وهرِمَ أبوه، وقضت أمه، التي كان اثنان من أبناء عمة أبيه أخوة لها من الرضاعة، أحدهما العم/ الخال محمد بن خالد بن عبد الله السليم (1354-1442هـ) رحمه الله تعالى.
إذا تأملنا مآثره المتعددة، ومسيرته التعليمية، وسجله الوظيفي، الذي ختمه بإمارة عنيزة، فإننا سنقف على جوانب مشرقة تستحق الوقوف عندها، لاستنطاقها، وامتثالها، وأعظمها عندي الجوانب الإنسانية، التي توجها التواضع الحقيقي غير المزيف، مع تحقق ما يغري بالكِبر، وتوفر أجواءه.
التواضع سمة في القلب قبل أن تكون في الأفعال، قد يتصنع المتكبر التواضع، فيعذُب لسانه، وينطلق وجهه، وتستكين جوارحه، لكن في نفسه غير ذلك، يرى نفسه فوق غيره، احتقارًا وغمطًا، وردًّا للحق.
وما أكثر ما يتحدث هؤلاء عن أنفسهم وإنجازاتهم، وأنسابهم وأعراقهم، وعلاقاتهم بأقرانهم من الكبراء، إلى غير ذلك من صفاتهم، التي نأى عنها (محمد الخالد) فقل حديثه، وعظم سمتُه، لا عن عي حابس، أو خجل مانع، ولكنه العقل والتواضع والترفع عما يستزل من الدنيا.
لقد كان تواضعه جوهرًا من جواهر تدينه، ذلك التدين القلبي الحق، الذي نشأ معه شابًّا وكهلاً، في وقت سادت فيه موجات وتيارات، كان التدين غائبًا أو كالغائب عند بعض شباب ذلك الجيل إلا من رحم الله.
إن تدينه الحق، كان المرجح لاختياره لإمارة بلده، فقد تعدد الأكفاء يومئذ، لكنه اختير (كما حدثني والدي حفظه الله) لما عرف به من التدين، وإن كان في الأكفاء يومئذ من هو أكبر منه سنًّا.
مرت اثنتا عشرة سنة لم تغير من طبعه، ولم تدنس صفحة سمعته، ولم تمس تدينه وتواضعه...
علاقته ببيت الله الحرام علاقة وطيدة، ترددا للعمرة، وموالاة بين الحج والعمرة، وكان يحج مع إحدى الحملات كل عام، من عام 1412هـ، حتى جاء تنظيم حجاج الداخل، وكنت أحد من صحبه في إحدى هذه السنوات، وقد علق بالذهن ذكرى لا أزال أحفظها له.
في عام 1418هـ كنت ووالدتي –رحمها الله- ممن حجوا مع تلك الحملة، وقد حج فيها جمع من الأقارب، ومن صويحبات الوالدة، غير أنها لم تكن معهن في حافلة واحدة، فأردت أن تكون عودتنا مع حافلة صاحباتها، والذي سوَّغ ذلك أن ثمة مكانًا شاغرًا في الحافلة، فبعضهم قد تعجل، والخال محمد الخالد يسافر بالطائرة، فيشغر مكانه، فجئت إلى مشرف الحافلة ملتمسًا، وقام العم عبدالعزيز العبدالرحمن السليم (1355-1442 توفي يوم كتابة هذا المقال رحمه الله) من مكانه إلى هذا المشرف مؤيدًا لي ومؤازرًا، فتلكأ المشرف، وأخذ يستجلب الأسباب للرفض، وكان الخال محمد الخالد منتحيًا جانبًا يقرأ في مصحفه، وهو يسمع الحوار بيننا، فرفع رأسه إلينا، وسأل المشرف بنبرة حادة: أليس كلٌّ حرًّا بكرسيه؟ قال: بلى، قال: إذن كرسيي لأختي! فما كان أمامه إلا إجابة طلبنا بقوة العدل. كان بينه وبين شيخنا الشيخ النحوي القدير صالح العبيكي صحبة قديمة، وصداقة متينة، ومودة منقطعة النظير، فنفحني من هذه المودة نفح من عبيرها وبركتها، فكانا ممن يشرفان مجلسنا كل أسبوع، فيجللانه بجلال الهيبة والوقار، وكم فائدة نثرت، وحكمة التقطت، وكم منع شهودُهما فضول الكلام، وألجمت هيبتهما لسان الهذر، وربما طال المجلس قليلاً فيقول الخال محمد لشيخنا: إياك وفاء السببية، فإنها إن جاءت بقينا هنا إلى العصر! فيقول شيخنا: وما أدراك لو جاءت أختها (واو المعية)!!
رحمه الله وغفر له، وجمعنا جميعًا في جنته.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم