(1)
نَشَر عبد الرحمن بدوي كتابًا جَمَعَهُ وترجَمَه بعنوان (دراسات المستشرقين). وفي هذا الكتاب توجد دراسةٌ تافهةٌ كَتَبها جولد تسهير، وهو مؤرّخٌ مَجَريٌّ من أصلٍ يهودي، ودراسته هذه تحمل عنوان (جن الشعراء)، وفحواها يتمثل فيما يأتي:
تأكيدُ جولد تسهير على أنَّ العرب تعتقد بأنَّ الشعراءَ تسكنهم الشياطين، وأنَّ هذه الشياطين هي التي تَهَبُ الإنسانَ الشِّعر، ثم يستدلّ بقصِّة معلقة عَبيد بن الأبرص، وببيتين لجرير، وبالمقامة الإبليسية للهمذاني، ثم يَروي شهادةَ الراعي النميري بأنَّ جريرًا له أشياعٌ من الجن. ولم يكتفِ جولد تسهير بذلك بل ذهب إلى أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ليجعل اثنين منها شاهدًا على ما يقول. ثم يحاول أنْ يبرهنَ على تغلغل هذا الاعتقاد عند العرب ببيتٍ لفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري، حيث أقرَّ المعرّي فيه بوجود شياطينَ للشُّعراء يُعينونهم على قول الشِّعر.
ويذكر جولد تسهير بعد ذلك اسمَ شيطانين لشاعرين هما: مسحلٌ للأعشى، وأبو زاجية لابن دريد، ويقول: إنَّ شيطان الشِّعر قد يُسْلِم إذا كان الشاعرُ راسخَ المعتقد كما أَسَلم أبو زاجية شيطانُ ابن دريد. ثم يَروي - من خلال رسالةٍ لأبي العلاء - أنَّ شيطان الشِّعر ممن يطول عمره جدًا، فيجوز أنْ يكون شيطانُ النابغة هو شيطان ابن دريد. ثم يختم دراسته هذه بأنَّ من الجن من يقول الشِّعر كما رُوي ذلك في البيت الذي أوَّله (وقبر حربٍ).
ومع أني حرصتُ على الوقوف على رأي جولد تسهير هذا إلا أني صُدمت بسبب سذاجته، وإنه لمن العيبِ أنْ يُسمَّى عمله هذا دراسةً؛ فهو بحث بسيط جدًا، ولا شيء غير ذلك. ويبدو لي أن عبد الفتاح كيليطو عندما كتب فصلاً تفكيكيَّاً بعنوان (الجنونُ الحكيمُ)، ونشره في كتابه (لسان آدم)، قد اطَّلع على ما كتبه جولد تسهير هذا، فإنَّ كليهما يعتقد بأنَّ شيطان الشعر يتلبَّسُ الشاعرَ، ويَسكنُه، وهذا غير صحيح، وإنما المقصود هو الإيحاء، وهو المذكور في القرآن من أنَّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم، والإيحاء الشيطاني هو أن يُلقي الشيطان الفكرة الخفية في رَوْعِ الإنسان شاعرًا كان أو غير شاعر.
وهو أيضًا (الأزُّ) و(التنزُّل) الواردان في الآيتين الكريمتين، ثم إنَّ فكرة شيطانِ الشِّعرِ هذه لا حقيقة لها عندي البتة، ولست مصدِّقًا بها، بل إني أؤمن أنَّ الإنسان إذا أراد الخير في الشِّعر أو في غيره أيَّده الله، وإذا أراد الشرَّ أَوكله إلى الشيطان. ثم آتي إلى النَّص الشعري الـمُلقى فإمَّا أن يكون جيدًا أو ضعيفًا، وتحصلُ الجودة من عدمها بحسب تفاوت الـمَلَكات وصِدقِ التجربة، فإنَّ نصوص الشافعي الشعرية مثلًا جاءت قويةً متقنةً في معظمها، وهي نصوص تدعو إلى الفضيلة بلا ريب، وتوبة الفرزدق كذلك تُعتبر نصًا مميزًا، وهو نصٌّ يدعو إلى الفضيلة، وفيه هجاءٌ للشيطان نفسه. ولا أدري هل سيقول جولد تسهير إنَّ شيطان الشافعي قد أسلم كما أسلم شيطان ابن دريد، وإنَّ الفرزدق قد كتب توبته على حين غفلةٍ من شيطانه؟ ثم ما حال المنظومات العلمية يا جولد تسهير، هل هناك شياطين خاصة بها؟ وهل سرُّ عذوبة ألفية ابن مالك تعود إلى أحد شياطين الشعر!
** **
- منصور بن عبد الله المشوح