د. جمال الراوي
كان العرب أصحاب حِكمةٍ وذكاءٍ فِطريٍّ، أمثالُهم تنطِق بالصدق، ومليئة بالمواعظ والنصائح، وقد خَبَروا وعرفوا طبائع النفوس، وجاء الطبّ النفسي ليؤكد ذلك، ومنها هذه الأبيات التي أوردها «ياقوت الحموي» في «مُعجم الأدباء»:
مَلكنا فَكانَ العَفو مِنّا سَجيَّةً
فَلَمّا مَلَكتُمْ سالَ بالدَّمِ أبطُحُ
وحَلَلتُمْ قَتلَ الأسارى وطالما
غَدَونا عَن الأسرى نَعفُ ونَصفَحُ
فَحسبُكُم هذا التفاوتُ بَينَنا
وكُلُّ إِناءٍ بالذي فِيهِ يَنضَحُ
ما قاله هذا الرجل: (كلّ إناءٍ بما فيه ينضح)؛ هو عنوانُ لكثيرٍ من الدراسات النفسية التي تُعنى بتحليل الشخصيّات، وقد أورد العلماء حالات كثيرة عن أناس يفيضون بما عندهم، وما يكتنزونه في دواخلهم، ويظهرونه على الملأ، ولا يستطيعون إبقاءه كامنًا، لأنّه يضغط على جُدر صدورهم!... فصاحب الخُلق الرفيع لا يستطيع إلاّ أنْ يفيض بالودّ والمحبّة وحسن التعامل مع الآخرين، وصاحب الخلق الرديء لا يتوقّف عن الإساءة لمن حوله يثير اللغط والجدال، لأنّه يكتنز نفسًا خبيثة مليئة بالحقد والحسد.
وجد علماء التحليل النفسي؛ أساليب كثيرة يتبعها أصحاب الأواني المُمتلئة والفائضة؛ حتى يُخفوا عن الناس ما في بواطنهم، ومثالًا على ذلك؛ فقد وجدوا بأنّ بعض المصابين بالعاهات المستديمة كالعجز الجنسيّ، مثلًا، يُكثرون الحديث عن مغامراتهم الزائفة، ولا يتردّدون في ابتداع قصصٍ خيالية، لكنّها سرعان ما تنكشف حقيقتها، لأنّ حبكة كلامهم، في غالب الأحيان، غير مترابطة!... ويقال بأنّ بعض الشعراء والكتّاب يلجؤون للتورية على جُبْنهم وضعف نفوسهم فيختارون من الشعر أكذبه ليزيدوه حلاوة، فيستعملون التعابير والمعاني الباهرة، وقد روى الأدب العربي حالات مثيرة عن هؤلاء، ومنهم المتنبي الذي قتله قوله:
الخَيْل واللّيْلُ والبَيْداءُ تَعْرفُني
والسّيْفُ والرّمْحُ والقرْطَاسُ والقَلَمُ
للأسف الشديد، كثيرًا، ما يُثير أصحاب الأواني المُمتلئة اللغط؛ لأنّهم يستعملون مصطلحات وتعابيَر، ذات دلالة على ما يعانونه هم أنفسهم، فتجد أحدهم يصف الآخرين بالعُقد النفسيّة؛ يرونهم بمنظارهم، ولا يقبلون وصفًا غيره؛ لأنّ أوانيهم تنضح، ويقول المثل العربي: (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وانْسَلَّتْ) وهو مثلٌ يُضرب لمن يَصف آخر بعيبٍ أو بداءٍ هو فيه! ومعناه في التحليل النفسي «الإسقاط النفسي» (Psychological projection) وهو أسلوبٌ للدفاع؛ يحاول المرء إسقاط عيوبه على الآخرين، وفيه دلالة على شخصيّة مكبوتة تربويًّا واجتماعيًّا وأسريًّا.
المُصاب بداء الإسقاط النفسيّ؛ يحاول، دائمًا، إبعاد الشبهة عن نفسه، فيجد في الإسقاط آلية هجوميّة لا شعورية؛ يبغي من ورائها حماية نفسه، وقد يلجأ إلى لوم الآخرين، ويعزو سبب إخفاقه وفشله أو ما يرتكبه من أخطاء على الآخرين، وذلك للتعميّة عن ضعفِه، وقد تسْمعه يقول ويكرّر ذكر العوائق الوهميّة التي واجهته، لاجتاز الأمر بنجاحٍ بالغ، ولا يعترف، أبدًا، بأنّه ارتكب أيّ خطأ، لذا يلجأ إلى إسقاطها على الآخرين.
في حياة كلّ واحد منّا؛ تجارب وذكريات ومواقف مؤلمة؛ تُسبّب له ضغطًا نفسيّا هائلًا؛ فيحاول كبتها وعدم الإفصاح عنها، وتبقى راسخة في العقل الباطن، ويحاول دفنها، لأنّها تريد أنْ تأخذ حيّزًا في مشاعره؛ لذا تجده يصرف جهدًا بالغًا في سبيل إخفائها ومنعها؛ لكنّه لا يستطيع في مسعاه؛ لأنها تعيش مستوطنة في ذاكرتها، ولا يستطيع الخلاص منها، وكلّما أطلت عليه؛ تثير لديه عقدة في الذنب مع عذاب في الضمير، لذا قد يلجأ الواحد منّا إلى آلية الإسقاط النفسي، لإبعاد التهمة عن نفسه، فيُسقط مساوئه على الآخرين، ويصفهم بنفس الصفات المكبوتة في داخله؛ يريد من ذلك صرف الأنظار عن نفسه، والتدليس على الآخرين، ودافعه في ذلك حماية نفسه من اللوم والتقريع والانتقاد، وهي للأسف؛ آلية دفاع رديئة ومُستهجنة.
آلية الإسقاط هي آلية نفسية لا شعورية؛ يلجأ إليها الفاشلون والمُنْهَزِمون والخائبون؛ الذين يعزون ما أصابهم من فشلٍ وإخفاقٍ إلى الآخرين، فيلصقون عيوبهم ونقائصهم بهم؛ فتسمعهم يردّدون بأنّه لولا هؤلاء وهؤلاء لنجحنا في مسعانا! ولولا الظروف لكانت أحوالنا أحسن! ولولا العوائق والمطبّات لوصلنا إلى مبتغانا!... والغريب؛ أنّ جميع هؤلاء يبحثون عن المبررات والحجج، ولا يعترفون بأنّ العيب فيهم؛ وهذا هو الشافعي -رحمه الله - يردّ على هؤلاء جميعًا ويقول:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا
وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ
وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
هؤلاء الذين يلجؤون إلى آليّة الإسقاط النفسيّ؛ يعرفون بأنّ لديهم نواقص في قدراتهم، وأنّهم عاجزون عن تحقيق ما يسعون له، وأنّهم فاشلون في حياتهم، سواءً كانوا طلّابًا في مدارسهم، أو أزواجًا في حياتهم الأسريّة، أو تجارًّا ومستثمرين في مشاريعهم التجاريّة، أو شعوبًا في سعيها للتطوّر... والأمثلة كثيرة جدًا... وهؤلاء يتحدّثون، دائمًا، عن الأعداء المتربصين بهم، وعن الأحوال السيئة التي تواجههم، وعن الحاسدين الذين يسعون لإفشالهم، وعن العوائق التي تقف في طريقهم... وغير ذلك من مسوّغات... وقد أوضح علماء النّفس؛ الفرق بين الإسقاط والتبرير؛ فالذين يلجؤون لآلية الإسقاط؛ يحاولون إسقاط التهمة والعيب على غيرهم، بينما الذين يبرّرون فشلهم؛ فهم يحاولون الكذب على أنفسهم، والبحث عن حججٍ وذرائع ومسوغات؛ دون أنْ يتهموا أحدًا.
وأخيرًا؛ فإنّ الإسقاط النفسي هو انعكاسٌ لشخصيّة مهزوزة وفاشلة ومُحْبطة ومهزومة، وهي آليّة قد تشمل شعوبًا وأقوامًا ودولًا، ولا تقتصر على الأفراد فحسب.