أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أسأل الله لنا جميعاً، ولجميع إخواننا المسلمين، الثبات على الحق مما يحبه ربنا سبحانه وتعالى، ويدعو إليه، وذلك قبل الممات؛ ولاسيما في يوم الجمعة المبارك من كل أسبوع؛ فقد قال أخوكم هذا الظاهري: (إلى بقية عمرك يا أبا عبدالرحمن لعلك تعود إلى نصابك). كما أدعو كل ملحد ليؤمن، وكل مؤمن ليزداد إيماناً مع إيمانه؛ ولهذا صح عنوان كتاب لي قديم فحل، وهو (لن تلحد)؛ فالإلحاد في عرف عامة الناس يعني إنكار وجود الله، والتكذيب بشرع الله، وجحد حقائق الغيب. والإلحاد في اللغة يعني الميل والانحراف عن الحق الواجب. قال أبو عبدالرحمن: الإلحاد يشمل إنكار وجود الله، وجحد حقائق الغيب، والتكذيب بشرع الله (إما في ثبوته، وإما في صدقه، وإما في معقوليته، وإما في عدله). مثال ذلك: إلغاء عقوبة القصاص حكماً بأنها ظالمة، أو غير معقولة؛ فذلك نوع من أنواع الإلحاد.. كما أن إنكار وجود الجن نوع من الإلحاد، والمطالبة بالتحرر من قيود الشرع نوع من الإلحاد، وتفسير حقائق الغيب بما ينافي خبر خالق الغيب نوع من الإلحاد.. إلا أنني في مناقشة هذه المسائل الإلحادية تحاشيت المسائل العملية، واقتصرت على المسائل الاعتقادية؛ فلم أحفل مثلاً بشروط إقامة القصاص؛ لأن غرضي بيان المعتقد الصحيح في مشروعية القصاص؛ ولم يكن غرضي ملاحقة شبه الملاحدة، وإنما كان الغرض تحرير العقل من أغاليط الفكر، وإقناع الناس بثمرة الإيمان بالله وبشرعه؛ ولهذا كان عنوان كتابي الذي نشرته عام 1403 هجرياً، الموافق 1983 ميلادياً، (لن تلحد) تفاؤلاً وثقةً باستجابة العقول المنصفة لموجبات الضرورات الفكرية؛ ولهذا أيضاً كتبت عن الطائفة المنصورة دلالةً على ثمرة الإيمان، وصدق الخبر الشرعي؛ ولهذا - مرةً ثالثةً - حرصت على تحقيق (نظرية المعرفة والعلم)، وهي (الأبستمولوجيا). ولا أنكر أن لي ريادةً في هذا الباب. ولقد صححت ومحصت طرق الاستدلال والجدل؛ لأن تنظيم الفكر، وتصحيح طرق الاستدلال، كل ذلك قمين بالمعتقد الصحيح، ولبقية هذه المسألة حديث يأتي إن شاء الله تعالى.
قال أبو عبدالرحمن: من أبرز الشخصيات التي أثرت في مسار حياتي ممن أدركتهم الشيخ (صادق صديق)، وهو أزهري من مصر، باقعة في علمه، ولذاذة معشره -رحمه الله تعالى، ورضي عنه حياً وميتاً-، ثم الشيخ (صالح بن غصون) -رحمه الله-، ثم الشيخ (محمد بن عبد الرحمن بن داوود) - رحمه الله تعالى -؛ وأنا أكثر له ملازمة. وقد سميت ابني داوود -رحمه الله تعالى- لباعثَين، هما: (داوود الظاهري)، واللقب العائلي لشيخي محمد -رحمهم الله تعالى -، ثم الشيخ (عبد الرزاق عفيفي)، و(عمر المترك)، و(عبد الفتاح أبو غدة) - رحمهم الله جميعاً-.
قال أبو عبدالرحمن: وشيخنا (عبد الفتاح) تطاول عليه أشباه العوام، وتمعلم عليه الصغار، وهو لاجئ في غير بلده؛ فصبر واحتسب.. وأعلمه - ولا أزكي على الله أحداً - إماماً فحلاً ممسوح الغرة، رائداً في تحقيق النصوص، لا يشق غباره، متثبت فيما يكتب. وأتحدى أي ظالم لنفسه في حقه أن يجد في كتبه ما يخل بدينه وعلمه وورعه. وهو حنفي، لن يبيع قناعته، ويعتقد ما يعتقد من مذهب أبي الحسن الأشعري -رحمه الله-، وهو متعبد باجتهاده لا بتقليد غيره، وعنده زهد وصفاء ورياضة، وليس ذلك من التصوف البدعي العقيدي؛ فالحمد لله الذي حقق أمنيته بدفنه بجوار المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة المنورة.. ولولا أن شعرتي سوداء عند طلبة العلم بسبب ظاهريتي، وولعي بالفن التغنائي آنذاك، لنصرته نصراً مؤزراً في حياته.
قال أبو عبدالرحمن: أما مَن لم أدركهم فلا أعدل بإمام منهم (بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته وخيار التابعين -رضي الله عنهم-) الإمام أبا محمد علي بن أحمد ابن حزم.. لا أعدل به أحداً، وإن لم يحصل الوفاق معه في كل (بل في أكثر) مسائله؛ لأنه علّمني حرية الفكر، والتطلع إلى تنوع المعرفة، وأن أكون على سجيتي، لا أبالي بنقد ناقد.. وإن كنت أسرفت في ذلك؛ فأضر بي ذلك أي إضرار.. وتعلمت منه التبويب المنهجي، وأن لا أكون في أحضان شويخ أقلدهم.. وكما حلق بي في معارف، معيارها الحق والخير، حلق بي في معارف معيارها الجمال حتى اخترت ذلك في الزي الذي ألبسه؛ فقد فطرت على حب الجمال، والشوق إليه سماعاً ورؤية مع رياضة شرسة نكدة، لا أزال أعانيها؛ لتستقيم حقائقي وديني وأخلاقي، وآليت على نفسي أن لا أتمظهر للناس بما يعلم ربي مني خلافه إلا ما يجب فيه الستر. وقد ماتت والدتي مبكراً؛ فلم أنعم بتربية النساء (وهي أدق من تربية الرجال في الصغر)؛ فكنت غير مبالٍ فيما أقول وأفعل، وقد أضر بي ذلك كثيراً في التصريح بالتهويمات أيام مراهقتي الفكرية.. واكتسبت من أبي محمد -رحمه الله- سلاطة اللسان؛ فما زلتُ أروّض ذلك بتجدُّد الورع مع تقدُّم السن.. وكنت أحب الدعابة والتنكيت حتى على مشايخي في الدرس؛ فآذاني بعضهم، وأحسن تربيتي بعضهم، وشاركني بعضهم هزلي (ومن البلية ما يضحك)؛ حتى صار لي صديقاً.. أقول لأحد مدرسيّ بشقراء إذ قال لي: (أين الكتاب)؟.. قلت: نسيته في (أبو مخروق).. فأين أبو مخروق بالرياض عن شقراء بعد انعطاف عريق البلدان إلى الشمال؟!.. فهذا أقل دعاباتي!!.. وعلمني الإمام أبو محمد - رحمه الله تعالى - ما سبق به عصره من التدقيق في قوى العقل والمعرفة، وتحقيق ما هو معرفة وما هو وَهْم، ثم استـكملت بغيره كالفيلسوف (ديكارت) زعيم المدرسة العقلية، و(هيوم) و(لوك) زعيمَي المدرسة الحسية، و(كانط) زعيم المدرسة النقدية.. ومن تأثير الإمام أبي محمد - رحمه الله - في تربية حسي الجمالي أن كنت مرهف الحس بالجمال جداً.. يؤذيني النشاز في الفن قبحاً، وأكع مما ليس هو قبحاً ولا جمالاً مما هو في لغة الجمال بارداً باهتاً، وفي لغة العوام ماصلاً خانساً.
قال أبو عبدالرحمن: الماصل عامية، لعلها مأخوذة من الماصل بمعنى اللبن القليل إذا حلبه لك الراعي؛ فتضطر لزيادته بالماء؛ فيكون طعمه غير لذيذ. وفي الفصحى أيضاً الجمعوس اليابس ماصل. وفي أمثال العامة: أمصل من فص العنصل، وهو بصل البر لا طعم له. وأما الخانس فهو طعام لا ملح فيه، ولعل أصله من الفصيح، يعني الغياب؛ أي غياب تأثير الملح، أو أن النفس تنقبض عن طعام بلا ملح؛ ففي الفصحى الخنوس بمعنى الانقباض، وفي اللغة الفصحى سمج؛ ولهذا كان ذوو السماجات عرفاً على الممثلين في العصر العباسي.. وقد ذكرت في (الورطة الوذحية) بكتابي (انفعالات صحفية) موافقتي لأبي محمد ابن حزم في صفات جبلية مصادفةً، وأذكر هنا (من باب التحدث بالنعمة) أنني فطرت على رحمة للمخلوقات.. رحمةً تكاد تمرضني؛ فإذا خلوت بنفسي تفاءلت برحاب المنقلب عند الله سبحانه وتعالى. وللحديث المسلسل عند ذوي الفهارس والأثبات: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». وجُبلت طبعاً لا تصنعاً - حتى عد ذلك بعض الناس من السفه - على السماح بالمال والجاه، وأنني لا أبيت حاقداً على أحد، وإذا غضبت جئت بآخر ما عندي حتى رضت ذلك بالتجلد والصبر.. وإبداء المكنون حال الغضب (وإن كان غير محمود): دليل على حسن الطوية.. ولقد ظلمني أناس من ذوي الخير والصلاح فأبحتهم في حياتهم، وقلت في نفسي: يا رب هؤلاء أبيحهم لأنهم من ذوي الصلاح العابدين لك فيما يظهر لي؛ فأنا أسامحهم من أجلك؛ فهب سيئاتي لحسناتهم. وبقي أناس قلة لم تسمح نفسي بعد بإباحتهم لعظم ظلمهم لي، ولأنه لا يظهر لي -والعلم عند الله- إلا أنهم من شرار خلق الله؛ فأنا أكرههم لذلك.. وقد أحس من نفسي في قليل من المرات بالرضا بمصيبة من ظلمني؛ فأعالج ذلك بالإنابة والاستغفار والتعوذ، واستحضار عظم أمر الشماتة. ولم أستفد من الإمام أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى جده في إنجاز العلم ونشره؛ بل استهلكتني المقالات الصحفية غير المباركة، فلم أنجز ترميم موسوعات كانت حبيسة الأضابير منذ أكثر من ثلاثة عقود، وقد باشرت الجد والعزيمة في إكمالها بعد أن هجرت الصحافة أو هجرتني هي، ورب نافعة أحسبها ضارة. وتأثرت بالإمام أبي محمد في الصراحة والصدع، ثم تتلمذت على الأئمة مثل (ابن فارس)، و(الراغب الأصفهاني) في الاشتقاق اللغوي المعنوي، وعلى (الأزهري)، و(الزبيدي) صاحب كتاب (تاج العروس) في الاستيعاب اللغوي، وأخذت من لوثة (زكي مبارك) بنصيب،اقتضبت جمالاً من الإيقاع اللذيذ لـ(طه حسين)، وكتاب مجلة الرسالة.. وأعجب بعلم (محمود شاكر) -رحمه الله-، وأمل من إطنابه، ولا أطيق (العقاد)، وأحب (الرافعي) ولا يعجبني أسلوبه، ولا أطيق (المنفلوطي) مضموناً وأسلوباً، وأرشف بسمعي ونظري (العباس بن الأحنف)، و(البحتري)، و(الشريف الرضي)، و(مهيار الديلمي)، و(إبراهيم ناجي)، و(علي محمود طه)، و(أحمد رامي) زجلاً.. واستجد لي في دنيا الفن (يا معذبي)، و(البارحة)؛ فنسيت (الطير المسافر) وأشباهها.
وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى. والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين