د. خالد عبدالله الخميس
في مقالة مطولة بحجم صفحة كاملة من صفحات جريدة الجزيرة بتاريخ 7-8-2020، نُشرت لي مقالة بعنوان إمبراطور العرب-1، تحكي عن عبقرية الملك عبدالعزيز وتتضمن نماذج متعددة من مواقفه العبقرية والأسطورية في أوقات الحرب والسلم. وأجدني هنا وبمناسبة مرور 90 عامًا على تأسيس المملكة العربية السعودية، أن احتفل مع من يحتفل وأشارك بذكر موقف أو موقفين للملك عبدالعزيز يعادلان في حجم الدهاء وميزان العبقرية مواقف متعددة من قصص دهاة العرب وعباقرة العجم.
يروي الأمير والمؤرخ سعود بن هذلول الذي كان أحد الرجال المخلصين للملك عبدالعزيز، يقول الأمير: عندما كانت الحجاز منفصلة عن حكم الملك عبدالعزيز، كان شغل الملك عبدالعزيز الشاغل هو السعي لضم الحجاز وتحقيق وحدة البلاد، وكان الشريف حسين يتزعم الحجاز فيما كان الملك عبدالعزيز يتزعم نجد والأحساء، وغالباً ما تشهد الحدود الفاصلة بين أراضي الملك عبدالعزيز وأراضي الشريف حسين تجاذبات ومناوشات وغارات، وكان أحد قادة معكسر الشريف حسين هو عبدالله أبو يابس الذي يتولى زمام بعض تلك المناوشات، وفي واحدة من تلك المناوشات تمكنت قوات الملك عبدالعزيز من الاستيلاء على مواشي أبو يابس، ولما أخبروا الملك عبدالعزيز بالخبر، أمر الملك برد مواشي أبو يابس له، واستغرب المحيطون بالملك من هذا التصرف، فكيف يعيد الملك مغانم أعدائه بعد أن تمكن منها. المفاجأه، أنه عندما جاء منادٍ ليبشر أبو يابس بأن الملك عبدالعزيز رد عليه مواشيه، استغرب الشريف حسين هذا التصرف، ودخله الشك بأن إبو يابس على وفاق مع الملك عبدالعزيز، الأمر الذي دفعه لاتخاذ قرار بقتل أبو يابس، ولمّا همّ الشريف بقتل أبو يابس، تدخل أبناء الشريف وطلبوا من أبيهم تخفيف العقوبة إلى السجن. وهكذا يتضح من أن البعد الذي كان الملك عبدالعزيز يهدف إليه من إكرام أبو يابس وإعادة مواشيه هو لأجل خلق طابور خامس وهمي داخل قوات الشريف، وذلك كي تتفكك لحمة الثقة داخل صفوف قوات الشريف، وبالفعل دبّ وهم الخيانة والتخوين، ولما تقابل الجيشان، جيش الملك عبدالعزيز وجيش الشريف، في المعركة الفاصلة كان جيش الشريف منهاراً نفسياً ومفككاً واقعياً، ولذا تمكن الملك عبدالعزيز من تحقيق النصر المؤزر بكل يسر وسهولة.
هذه الخطة المخادعة من الملك عبدالعزيز في زرع الإرباك وزعزعة الثقة لدى قيادات الخصم وبين أبو يابس من جهة والشريف حسين من جهة أخرى كان لها دور في انهيار الروح المعنوية في جيش الشريف.
ولتأكيد نجاح الخديعة أخفى الملك عبدالعزيز سبب تصرفه ذلك وأوهم من حوله أن أبو يابس صديق مقرب حتى انتشرت خبر الشائعة ووصلت للشريف حسين الذي زادت قناعته بخيانة أبو يابس. ولم يدرك الشريف حسين مخطط الخديعة إلا لاحقاً.
ومن العجب، أن الظاهرة الحربية المعروفة بالطابور الخامس Fifth column عرفت في عام 1936 في الحرب الأهلية في إسبانيا، بينما الملك عبدالعزيز قام بتطبيق هذه الظاهرة واستخدمها في حربه مع الشريف قبل هذا التاريخ وتحديداً عام 1925.
وكما أن الملك عبدالعزيز يجيد لعبة إرباك جيش العدو وخلق خلل في تماسك صفوفه، فهو أيضاً يجيد لعبة التعامل مع مضاداتها ويجيد إخماد الشائعات الموجهة ضده، ففي حربه لضم الأحساء، أصيب الملك عبدالعزيز بطلق ناري في جنبه، وأشيع خبر وفاته وتضخم الخبر حتى دبّ بين صفوف جيش الملك الرغبة في الانسحاب، ولكي يصحح الملك عبدالعزيز هذه الشائعات، عمد الملك عبدالعزيز رغم إصابته إلى الزواج من أحد فتيات الأحساء وبالفعل تمت مراسم الزواج في تلك الليلة ودقت طبول الزواج حتى سمعها القاصي والداني، وهكذا أدرك الجميع بعد سماعه بزواج الملك عبدالعزيز أن الملك حي ومعافى، واستطاع الملك عبدالعزيز بكل ذكاء كتم أصوات الشائعات التي كادت أن تعصف بالروح المعنوية للجيش.
هاتان الحادثان، وقبلها من الحوادث التي أشرنا لبعضها في مقالة إمبراطور العرب-1 تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك إجادة الملك عبدالعزيز للتلاعب بالأوراق الحربية والسياسية، وتؤكد قدرته على قلب مسار اللعبة الحربية على لاعبيها، وتوجيه التفاف حبل المصيدة لمن نصبوها.
إن هذه الدروس من عبقرية الملك عبدالعزيز هي فيض من غيض من تاريخ الملك عبدالعزيز البطولي، وإن هذه العبقرية العبدالعزيزية هي من استطاعت أن توحد دولة كانت صحراوية قاحلة يتقاتل أهلها ليلاً ونهاراً إلى دولة مدنية فرضت نفوذها على العالم أجمع.
طبت ابا تركي حياً وميتاً.