أ.د.محمد بن حسن الزير
وأما بنعمة ربك فحدث! وما أكثر النعم التي تحيطنا وتحيط بنا في كل ناحية وفي كل اتجاه؛ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها! ومن نعم الله علينا «نعمة» الذكر الدائم والتذكر المستمر لما نحن فيه من «نِعَم» والحمد لله رب العالمين؛ ومن نِعَمِ الله العظيمة علينا المنطوية على نعم لا حصر لها، ما نحظى به من رب العزة والجلال؛ من منحته الربانية لأهل هذه البلاد الكريمة، بأن تفضل عليها بهذا الوطن الذي يتقلبون في أرجائه المترامية الأطراف، في ظلال وارفة، تحفها بركة الله، برزق وفير، وخير كثير، وأمن عميم، وتآلف رحيم، وتطور وتقدم يتطلع إلى آفاق لا حدود لها.
إنه نعمة نتذكرها شكراً لله، مستشعرين ما كانت عليه حال هذه البلاد من فرقة وتشرذم وخوف وجوع وعداء، فأصبحنا بنعمة الله إخواناً؛ كما قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران 103).
ونتذكر معها (هبة الله) الكريم الوهاب لهذا الوطن «عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود» الذي وهب (الله) لنا، أيضاً، على يديه هذا (الوطن الراسخ العزيز) بعزة الله؛ هذا (الوطن العميق) المكين بتمكين الله، الراسخ في ثباته في أعماق (أهله المواطنين) وفي أرواحهم، ثبات الجبال الراسيات، فأصبح بهذه العلاقة العميقة؛ التي هي عقيدة من عقيدتهم، ومظهراً من مظاهر دينونتهم لله توحيداً وإيماناً، وتوافقاً تلقائياً؛ بين (هواهم وسلوكهم) وطناً عميقاً، يستعصي، في ثباته العميق، على كل العواتي والعوادي والتقلبات؛ لأنه ليس مجرد وطن أرض فحسب؛ ولكنه فوق ذلك وقبل ذلك وبعد ذلك و(طن أرض وعقيدة معاً في رباط مقدس من أرضه إلى السماء)!
نعم! نتذكر معه الرجل «الفذ» والبطل المقدام والقائد الملهم الحكيم الموفق، وقبل هذا وذاك المؤمن العابد، الذي كان زاده الأساس في جهده وجهاده (إيمان وعقيدة وعمل متواصل إلى آخر لحظة) في مسيرته العبقرية لاستعادة الدولة إلى (سيرتها الأولى) ثم إلى (فوق مسيرتها الأولى) كما عبر بصدق عن ذلك في تصحيحه (المعبر) للكاتب (أمين الريحاني) بشأن (البيت الشعري الشارد) للمتوكل الليثي، في قصة الحوار المعروف بينهم (الجاسر؛ جمهرة..، 1/ 348-349)؛ حينما قال الملك عبدالعزيز، مبيناً ما ينبغي أن تكون عليه الصياغة الأساسية للبيت التي أوردها الريحاني؛ وهي:
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل (مثل) ما فعلوا
«فقاطع الملك عبدالعزيز الريحاني قائلاً: «نحن نبني يا حضرة الأستاذ كما كانت تبني أوائلنا؛ ولكننا نفعل (فوق) ما فعلوا»!
فقال أمين الريحاني: «أحسنت يا طويل العمر! أحسنت!! أصلحوا البيت حتى إذا قرأ كلُّ من تشوَّف بالمثول بين يديكم:
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا
تحتدم فيه شعلة الحياة الجديدة؛ فيعي وهو يحترم (الأجداد) فيما يؤهله لاحترامهم» (ملوك العرب 2/97).
لقد استعاد الملك عبدالعزيز الدولة التي غابت بعض الوقت لأسباب موضوعية معروفة، وفي ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية صعبة ومعقدة، بعمل بطولي، سيظل حديث الدهر في تميّزه وفرادته في مدى منجزاته وأهميتها؛ وفوق ذلك بنى دولة ذات قبائل عربية متعددة، وذات أطراف مترامية، وذات حدود ممتدة، انصهرت؛ بنيته الطيبة، وبسياسته الحكيمة، وبسلوكه العادل، في (كيان واحد تجسدت فيه أول وحدة عربية فريدة موحدة) بعد دولة المدينة المنورة الأولى، على منهج العقيدة السديد؛ ووفاق سماحتها الوسطية!
نعم! لم يكن ذلك (الخلاف والتفرق) الذي حلَّ (بالدولة السعودية الأولى) بعد وفاة الإمام (فيصل بن تركي) على الرغم من خطورته وشدته واستفحاله، قادراً على أن يعصف بالدولة السعودية إلى حد الفناء والتلاشي في غيابات الرمال المتحركة القادرة على ابتلاع كل شيء؛ ولكن (الدولة السعودية) كانت تمتلك قوَّة (مناعة خاصة) هي من (ميزاتها التي تنفرد بها) جعلتها تحتفظ في ذاتها (لأسباب موضوعية) بمقومات الحياة والبقاء، والاستعصاء على كل (عوادي الإنسان والزمان والمكان) التي مرَّت بها، في الماضي، ثم قبيل ظهور (الملك عبدالعزيز) ومن أهم الأسباب الموضوعية أنها دولة أسست على (تقوى من الله) وذات علاقة بحبل الله المتين؛ ولذلك ومن هنا فما هي إلا فترة وجيزة، حتى جاء (الابن الصالح لآباء صالحين) وهو الفتي (عبدالعزيز آل سعود) منطلقاً بإيمان ونيّة، وعزم وقوّة؛ ليعيد (الدولة العتيدة سِيْرَتَهَا الأولى) عبر مسيرة كفاح وتلاحم، وجهد وجهاد، ومثابرة وصبر، ويعود بها أكثر قوة وحيوية، وينطلق بها إلى آفاق لا حدود لها، تحت اسم (المملكة العربية السعودية) عام 1351هـ الموافق عام 1932م.
يقول الأمير (طلال بن عبدالعزيز) رحمهم الله، في تقديمه لكتاب (نجد وملحقاته..) الذي كتبه الريحاني سنة (1926م): «.. وما أكثر ما في سيرة البطل الراحل، بعد هذا التاريخ، من مواقف مشرفة، وأحداث بارزة وأعمال خالدة، بعد أن وحد شبه جزيرة العرب في مملكة واحدة تمتد من البحر الأحمر إلى خليج العرب، ونقلها من بلاد ضائعة بين الرمال إلى دولة كبرى تلقي ظلالها على العالم، وتتجه إليها الأنظار من سائر أنحاء المعمورة، وظل -رحمه الله- حتى ساعاته الأخيرة (سنة 1953) يبني بيده ويوحي بعقله، ويعطي من ثمار تجاربه، ويتألق في مهد الوحي نور هداية، ويرتفع عَلَمَاً فوق الأعلام، وذروةً دونها كل الذرى، حتى أعاد لدنيا الإسلام نضارتها، وتبرعمت آمال العرب من جديد بإحياء ماضيها التليد»(ص6).
أيها (المواطن الكريم!) ملكاً قائداً حكيماً، وولي عهد معاضداً أميناً، وحكومة سنية راشدة، وشعباً وفياً معاهداً، هنيئاً لكم وللجميع وطن (المملكة العربية السعودية) هذا الوطن الذي تنتمي إليه، وتعيش فيه مرفوع الرأس، موفور الكرامة، محروس الحدود، آمناً في سربك، مطمئناً على قوتك ورزقك؛ من مطعم ومشرب وملبس ومسكن، في عيش رغيد، وعلم منير؛ وسعي مفيد مستفيد، منطلقاً في المناشط، متنافساً في الخير مع الأقران، متعاوناً مع الجميع من أصحاب وجيران، في الزمان والمكان، وفي كل البلدان؛ في ظل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواٌ} (الحجرات 13).
أيها الوطن الكريم الغالي! عشت، على الدوام! محروساً بعين الله، محمياً به، من كل عدو وحاسد، منصوراً على كل جاحد وحاقد، قوي المراس، مرفوع الرأس، تحت راية الخفاق الأخضر، والشعب جند والحسام مهند!